د. صادق كاظم
جرب العرب سابقا الوحدة سياسيا لمرات عديدة، لكنهم فشلوا لأسباب عديدة، أهمها التنافس الشديد بين الزعامات وعدم مراعاة الخصوصيات، فضلا عن التباينات الاقتصادية والفجوات بين البلدان، اضافة إلى ممانعات دولية لم تكن ترغب في أن يصبح العرب موحدين في منطقة تعتبر الاهم في حسابات الدول العظمى. وبدلا من أن تحلل الأنظمة العربية أسباب الاخفاقات وتتجاوزها للتأسيس لنظام عربي مؤثر، انغمس الجميع في مبارزات وانقسامات وحروب للسيطرة على بعضهم البعض، أدت إلى تعميق الحواجز وترك الندوب والجروح، فضلا عن ضعفهم وحاجتهم إلى القوى الدولية العظمى لحمايتهم. في مطلع الالفية الثالثة وما بعدها شهد العالم العربي تغييرات زلزالية سياسية كبيرة ازاحت الانظمة الشمولية التقليدية، التي هيمنت على السلطة لعقود طويلة باستثناء الأنظمة الملكية، التي نجت من التغييرات العاصفة وحلت محلها انظمة سياسية جديدة، صحيح أنها ليست قوية بما يكفي لكنها فرضت قدر المستطاع رؤية جديدة لعالم عربي مغاير للعالم السابق، الذي عرفناه بشموليته ودكتاتورية حكامه واستبدادهم. يواجه العالم العربي تحديا خطيرا يتمثل في ازمة غزة وما تركته من تداعيات انسانية خطيرة ودخول الرئيس الامريكي دونالد ترامب على خط الازمة ودعوته إلى مقترح جنوني بتهجير سكان القطاع ونفيهم إلى مصر والاردن المجاورتين، بل ومارس اقصى الضغوط على تلك الدولتين للقبول بمشروعه الخيالي والغريب هذا. مشروع ترامب والتمادي الصهيوني في العدوان من دون وجود قوة عربية سياسية حقيقية مضادة تتمكن من تعطيل مفاعيل الامريكيين والصهاينة أحرج النظام السياسي العربي ودفعه إلى التحرك سريعا لوضع خطة عربية مضادة لتكون بديلا منطقيا ومقبولا عن المشروع الامريكي الخطير وللتاسيس لقوة عربية وازنة ومؤثرة في المنطقة. قمة القاهرة الأخيرة أفرزت رؤية عربية جادة وراغبة في بلورة موقف سياسي قابل للتطور مستقبلا، حين وضعت تصورات لواقع غزة من خلال ورشة عربية ضخمة لإعادة إعمارها، اضافة الى المشاركة في تشكيل قوة امنية تتكفل بحماية امن اقطاع ونزع الذرائع عن الصهاينة لقصف القطاع وابادة سكانه. إن الحاجة العربية لبلورة نظام سياسي يدخل الجميع فيه باتت ضرورة ملحة، خصوصا أن الانكشاف العربي امام مختلف الازمات والتحديات بات يهدد امن واستقرار البلدان العربية نفسها ويضعها في مازق حرج وهذا النظام بالامكان اقامته وتاسيسه بالاعتماد على الامكانات المتاحة الاقتصادية والبشرية والعسكرية الهائلة، التي تملكها والتي بالامكان توظيفها في سبيل خدمة هذا الهدف. إن اقامة تحالف عربي يهدف إلى حماية الدول العربية يجب أن يكون مبنيا على أساس الثقة المتبادلة، من خلال التعاون المشترك ونبذ الخلافات والماضي السياسي السيئ والعمل على بناء نموذج حقيقي للدولة العصرية المدنية يقوم على أسس المواطنة، ضمن عملية تنموية شاملة وعادلة، والقضاء على الفقر والبطالة وتحقيق الأهداف والسياسات، التي تزيل عوامل الفقر والعوز لمواطنيها. إن التعاون والتكامل العربي أمران ليسا مستبعدين، لكنهما بحاجة إلى ارضيات صلبة ومتينة لكي يقفا عليها ويكونا مهيئين للانطلاق منها، شريطة تجاوز الخلافات والحساسيات والتخلي عن التدخل في شؤون البلدان نفسها. إن العرب لا تنقصهم الجغرافيا ولا الثروات، لكي يحققوا الكثير من الانجازات بضمنها تعزيز حضورهم السياسي وتحصين أمنهم، ولكن لكي يتمكنوا من انقاذ منطقتهم من شرور المخاطر والمؤامرات التي تستهدفهم وعلى وجه الخصوص مشروع ترامب، فإن عليهم تاسيس نظام جديد شبيه بالاتحاد الاوروبي، الذي حول أوروبا من دول متناحرة ومتنازعة فيما بينها إلى قوة سياسية عظمى لها وزنها وثقلها الكبير المهم في
العالم.