مرتضى الجصاني
في عالم الخط العربي، حيث تتشابك القداسة الجمالية مع القواعد الصارمة، يبرز بعض الفنانين كروّاد مغامرين يوسّعون حدود الحرف ليصبح مساحة للتأمل والبحث عن المعنى. مثنى العبيدي واحد من هؤلاء المبدعين الذين تمكنوا رغم تمسكهم بجوهر الخط العربي من أن يحوّلوه إلى فضاء مفتوح على احتمالات لا نهائية.
إن تجربة العبيدي ليست مجرد امتداد تقني للمدارس التقليدية، بل هي محاولة واعية لتحرير الحرف من سكونه التاريخي، ورفعه إلى مستوى الحضور البصري الذي يحاور الزمن والروح في آنٍ واحد.
الإبداع، كما يظهر في تجربة العبيدي، ليس مجرد مهارة مكتسبة صقلتها سنوات الممارسة، بل هو حاجة داخلية تفرض ذاتها على الفنان. الحرف العربي، بما يحمله من إرث روحي ومعرفي، يصبح في يديه كائنًا يتنفس الحياة، يخضع لتحولات جمالية دقيقة، تتجاوز كونه عنصرًا بصريًا إلى كونه وسيطًا يعبر عن رحلة ذاتية في البحث عن المعنى. هذه الرحلة ليست سهلة، فهي تتطلب جرأة على كسر القوالب دون الوقوع في فخ الفوضى. العبيدي يمسك بهذا الخيط الرفيع بين النظام والانفلات، يُوازن بحساسية بين احترام التقاليد والرغبة في تجاوزها، فيجعل من الخط حوارًا مستمرًا بين القديم والجديد.
وعلى عكس الكثير من الفنانين المجددين، لم يواجه العبيدي التيارات المحافظة التي ترى في أي محاولة للتحديث خطرًا على أصالة الخط العربي كونه هو ابن للمدرسة التقليدية بكل أصولها. لكن هذه التيارات، رغم دورها في حماية التراث، كثيرًا ما تعيق التطور، معتبرة أي انزياح عن النمط الكلاسيكي مساسًا بهوية الحرف. لكن العبيدي، كمن ينحت في الحجر، لم ينكفئ أمام هذا التصلب، بل واصل العمل بإصرار، مؤمنًا بأن الفن الحيّ هو ذاك الذي يواصل الحركة، وأن الخط، كأي كيان جمالي، بحاجة إلى أن يتنفس هواء العصر كي لا يتحول إلى مجرد أثر جامد.
يمكن النظر إلى أعمال العبيدي كنوع من المقاومة الناعمة، مقاومة لا تسعى لهدم التراث، بل لإعادة تأويله. إنه يعيد قراءة الخط العربي بعين فاحصة، يبحث في بنيته عن إمكانات جديدة، يُحرر الحرف من ثقل التقاليد دون أن يقطع جذوره، وكأنه يقول: "التجديد ليس نفيًا للماضي، بل هو استمرار له في هيئة أخرى".
تتجلى بصمات العبيدي التجديدية في عدة مستويات تشير إلى وعيه العميق بالطاقة التعبيرية للحرف. فهو لا يتعامل مع الحرف كعنصر ثابت، بل كمادة قابلة للتحول. في بعض أعماله، يُفكك التكوين النصي ليعيد ترتيبه وفق إيقاع بصري جديد، يقترب أحيانًا من الحروفية المعاصرة التي تجعل من الحرف وحدة تشكيلية مستقلة، تتفاعل مع الفراغ كجزء من العمل الفني. ومع ذلك، يظل البعد الصوفي في تجربته حاضرًا بقوة. الحرف لديه ليس مجرد شكل، بل هو أثر لرحلة روحية. في بعض تكويناته، تبدو الحروف كدرويش يدور في فلك الغياب، تتحرر الخطوط من صرامتها الهندسية لتُحاكي حركات الوجد، وكأن النص يتحول إلى نوع من الصلاة البصرية.
يستعير العبيدي أحيانًا أشكالًا من الطبيعة، فيُحوّل الحروف إلى كائنات عضوية تتمدد وتتشابك كأنها جزء من نسيج حيّ. هذا النزوع للتجريد يمنح أعماله بعدًا حداثيًا، لكنه تجريد لا يفقد الحرف جوهره، بل يُعيده إلى حالته الأولية كأثر بصري يُشبه انبثاق الحياة من العدم. ما يميز تجربته هو وعيه بأن الخط العربي ليس كيانًا منغلقًا، بل هو لغة مرنة تستطيع أن تتجدد مع كل عصر. أعماله تُظهر قدرة الحرف على التحول، على أن يكون مرآة للذات الفردية والجماعية في آنٍ واحد. إنه يدرك أن الحرف، رغم قداسته التاريخية، ليس معزولًا عن حركة الزمن، وأن الحفاظ على أصالته لا يعني تجميده، بل البحث عن طُرق جديدة لجعله حاضرًا وفاعلًا في الوجدان البصري المعاصر.
إن الحديث عن مثنى العبيدي هو حديث عن الإبداع كقدر لا يمكن التراجع عنه. إنه الفنان الذي اختار المغامرة على الركود، والبحث على التكرار. في عالم الخط العربي، حيث يُنظر إلى الحرف كرمز ثابت، يجرؤ العبيدي على رؤيته ككائن يتغير، ينمو، ويتحول. هذا الوعي الديناميكي هو ما يجعل تجربته ذات قيمة خاصة، لأنها ليست مجرد محاولة للتزيين، بل هي بحث جاد في إمكانات الحرف كوسيط جمالي وفلسفي.
ربما يظل العبيدي في نظر البعض خطاطا كلاسيكيا متقنا ومتمكنا من قواعد الخط العربي، لكن الحقيقة أعمق من ذلك. فهو، في جوهره، عاشق للحرف، مخلص لجمالياته، عاشق يرفض أن يُحاصر معشوقه داخل قفص الزمن. إنه يُطلق الحرف في فضاء أوسع، يسمح له بالتحليق، مُدركًا أن الحرية هي الشرط الأساسي لأي إبداع
حقيقي.