بغداد: مآب عامر
كلما أنهي قراءة رواية تتناول حياة النساء وما يتعلق بها من أحداث ومصائر وما يدور حولها، حتى يتمثل أمامي بصورة واضحة مصطلح "الثقافة المضادة" لتيودور روستشاك، وغيره من مفاهيم الحرية والحقوق وإعادة بناء الذات.
تقول الروائية سلوى النعيمي في "برهان العسل": "لم أعش حكايتي فضيحة، ولا أكتبها فضيحة.. الفضيحة كانت في السرّ. لم يعد السرّ سرّاً" وهذه العبارة ربّما هي الأكثر قرباً للثقافة المضادة، حيث تحوّل السر إلى العلن، ومن ثمّ تختفي فكرة الفضيحة، وهذا ما يحدث الآن في زمن "السوشيال ميديا" إذ أعيد إنتاج "السرّ" الذي كان وفقاً لمبادئ مجتمعية معينة "فضيحة" بطريقة يكون فيها جزءاً من الحريات الشخصية التي لو طرحت علانية لن يكون في الأمر أي خلل ما أو حرج.
إنَّ النظر إلى عبارة سلوى النعيمي هذه يمنحنا طريقة مثالية لاستكشاف كتب وروايات أخرى تضارعها في الاشتغال وطريق الاقتراب الفكري، لعلّ من أقربها لما نطرحه هنا ما تكتبه: "علوية صبح، سحر الموجي، سمر المقرن، سلوى النعيمي، ليلى العثمان، آسيا جبار.." وغيرهن الكثير من اللواتي جعلن من شخصية المرأة المحور الذي يعمّق الثقافة المضادة ويحاول صياغة حياة مثالية مغايرة لعالم اليوم أو لعالم الرواية.
إنّ التعمّق في الكتابات والروايات التي تكتبها النساء سواء كانت عربية أم أجنبية ما هو إلّا تمرّد شخصي لمناهضة معاناة المرأة وتعنيفها، التمرّد الذي تخفيه الكاتبة بين السطور لتشكل جزءا من الخطابات المطالبة بحقوق المرأة وحريتها، أو لينتهي بمأساة البطلات ومصيرهن في الحياة الواقعية أو المتخيلة.
فبعض هذه السرديات حاولت أفكارها كسر الصور النمطيّة للمرأة واقتراح مسارات أخرى غير متوقعة للقارئ، كما في رواية "مسك التل" لسحر الموجي. أيضا يمكن اكتشاف محاولات الروائيات في تفكيك حياة النساء وإعادة بناء ذواتهن بحسب مخيلة تبحث عن شيءٍ مضادٍ أو مختلفٍ عن واقع حياتهن. ففي رواية "مذكرات امرأة غير واقعية" لسحر خليفة تبرز تلك المفاهيم المتعلقة بأدوار النساء وخياراتهن الصعبة في المجتمعات العربية المحافظة. كما ويمكن اعتبار رواية "أن تعشق الحياة" لعلوية صبح بمثابة نوع من اختبار للجسد وأزماته التي تضيف عمقاً نفسياً وصحياً وفلسفياً لأحداث وتفاصيل محبوكة بشكل مثير وهي في رحلة البحث عن الهوية الذاتية.
إن ما يدور بين صفحات الروايات والكتابات التي هي من تأليف النساء مستمدٌّ من صراعات "الشخصي والاجتماعي"، حتى تبدو مطالب الشخصي "المرأة" هي الوحيدة الممكنة بالنسبة لهن، حيث المخاطر التي تتشابك مع العنف والأسرة والحياة الزوجية والميراث والخيانة والطلاق والعلاقات الاجتماعية وغير ذلك من حكايات كان بعضها على هامش التاريخ وتحاول الكاتبات إبرازها على السطح لإظهار الإنسانية بشكل متكامل.
ولم تكتفِ السرديات النسائية بتسليط الأضواء على قضايا مصيرية ومشكلات "الشخصي والاجتماعي" بل تناولت أيضا المسائل الحساسة التي لا يتقبلها المجتمع بشكل مباشر مثل الأمراض النفسية التي تصاب بها النساء، وخاصة الكآبة التي تناولتها رواية "حليب أسود" للروائية ألف شفق، وغيرها من محطات سلكتها النساء من خلال سرديات يمكن أن أسميها "الحرية المؤقتة" في عالم وجودي تخيلي يعكس الإدراك لحقيقة مفادها أن للمرأة صوتاً نقديّاً وأنّه يمكن للكتابات النسائية أن تتفوق على كلّ شيء آخر.
ولعله من المهم هنا أن نذكر أن هذا النمط من الكتابات يحتاج إلى كاتب نبّه ومتلقٍ أكثر نباهة يستطيع التأويل ويبتعد عن القراءة الظاهرية لمجريات السرد.