الغراب الضاحك

ثقافة 2025/03/11
...

  باقر صاحب 


باتوا وأصبحوا يدعونني "تراجيكومك"، وفي لحظاتِ دفني الأولى، قبلَ أن يذهبوا، كان هذا اللقب المتشابك مع أغصان شجرة حياتي، ينطبق عليَّ قولاً وفعلاً.

 لقد قلبتُ دورَ حياتي فجأةً، منذُ صِغَري، وأنا طالبٌ في المرحلة المتوسطةِ، من البكاءِ والمأساةِ إلى الضحكِ والملهاةِ، ذلكَ بسببِ بزوغِ ريشةٍ بيضاءَ واحدةٍ فقط في شعري الأسود الفاحمِ كلّه، كلُّ المحيطينَ بي، تعجَّبوا لذلك.

ويتحولُ تعجّبُهم إلى تساؤلاتٍ تتخذُ صيغةَ اتهامٍ بأنّني ارتكبتُ فعلاً مشيناً ما، فبتُّ من دون بقيةِ أترابي وأفرادِ عائلتي، أشبهَ بغرابٍ لكآبتي الدائمة، وقد نبتتْ له ريشةُ طائرٍ أبيض، فتخيَّلتُ نفسي مُحَلّقاً ومتنقّلاً من سماءٍ ذاتَ أجواءٍ سوداويّةٍ إلى سماءٍ أكثر إشراقاً.

صديقي اللدودُ، الذي يعرفُ أكثر من الجميعِ ما هي علَّتي.

 قالَ لي: ما بكَ

فقلتُ أبزُّه متفاخراً- تلكَ الريشةُ بسببِ قصيدةِ حب.

 -تساءل: هل هي التي تحبُّ في جوارِنا؟

- قلتُ لكي أنفي وجودها الذي سبّب لي كل هذه المشاكل- لا.. تستطيعُ القولَ إنَّها حوريةُ النهر.. وما الريشةُ البيضاءُ إلّا لكي تريدَ منّي التحليقَ والاقترابَ منها.

 -عجباً- قالَ – هل هيَ حوريَّةُ نهرٍ أم جنَّة؟

لم أجب. أبعدتُ صديقي عن تفكيري، وركّزتُ على مقولتيِّ التحليقِ والاقترابِ منها.. ماذا يعني ذلك، هل يعني السباحةَ مع التيارِ كي يمتلئَ الرأس شيباً، عفواً ريشاً أبيض، وأحلّقُ إلى السماءِ السابعةِ حيث ألتقي الحوريَّةَ هناك.

اِرتجفتْ أوصالي من طيراني الفكريِّ هذا، هذا لا يعني، لا يعني سوى.. ال.. لم أستطعْ أن ألفظَها.. وعزمتُ على أمرٍ.. فليقولوا.. إنَّهُ دُبّرَ في ليل.

قلتُ: وداعاً لقصائدِ الحبِّ، التي تُنبتُ الريشَ الأبيضَ، الذي يسكنُني السماءَ السابعةَ. تلك التسميةُ أفضلُ من تلك السِّوى. وداعاً للهمِّ والغمِّ.

 قالَ صديقٌ آخرُ لأخيهِ: تضحكُ دوماً بسببٍ أو من دونِ سببٍ، ليسَ مثلِ أبي الرّيش، الذي كلُّه همٌّ وغمٌّ.. وداعاً  يا هذا لكلِّ ذلك.

سأغلّفُ الجدَّ بالهزلِ، وأغلقُ كلَّ مساماتهِ، لكي لا تسهمَ الثغراتُ  في تنميةِ بزوغِ ريشٍ جديد.. لن أستبدلَ الريشةَ البيضاءَ بريشةِ غرابٍ ناعقٍ لونهُ فاحمُ السَّواد، بل بتسريحةٍ سوداء لغرابٍ ضاحكٍ يرفع راية الريشة البيضاء. 

سأتركُ غرفةَ الشعرِ الكئيبةِ الغبراءِ إلى منصّةِ مسرحٍ ملوَّنٍ مُبهرجٍ مزوّقٍ، قالوا لي- هرّجْ كثيراً ستمحو كل ذنوبكَ البيض، اِضحكْ كثيراً، سيعودُ شعركَ أسودَ فاحماً، ولكن إيّاكَ أنْ تتحوَّلَ إلى غرابٍ ينعقُ وتميتُنا جميعاً، حاولْ أن تكونَ غراباً ضاحكاً، ذلك دورٌ لم يلعبْهُ أحدٌ من قبل.. اِضحكْ تزددْ سواداً ونعشْ نحنُ كثيراً .

دخلَ صباحي ومسائي في إتقانِ الدّورِ، لأنّهُ دورٌ مركّبٌ، غرابٌ يضحك. ما هذا؟ رجاءً لا تعدْ إلى الشعرِ، وتردّدُ مع المتنبي:

"أبني أبينا نحنُ أهلُ منازلٍ/ أبداً غرابُ البينِ فيها ينعقُ"، إنَّه يخاطبُ كلَّ البشريةِ، هذا الغرابُ الناعقُ في ديارِكم جميعاً، أينما حللتُمْ ورحلتُمْ، لن تنجو من تلك السّوى، التي لا أستطيعُ تلفُّظَ ما بعدها، تحضرُني قصَّةُ دفانٍ، يدفنُ عشراتِ الجثثِ كلَّ يومٍ، وحينَ أُصيبَ بمرضٍ عضالٍ، وأُدخلَ مستشفى، كانتْ أوصالهُ ترتعدُ خشيةَ اقترابِ صوتِ نعيقِ غرابٍ من نافذةِ غرفتهِ في المستشفى.

أتقنتُ الدّورَ ومثلتُ مسرحياتِ الحياةِ جميعاً، في البيتِ والباصِ والعملِ والمقهى، لم أتعبْ، ولم أمرضْ، ولم أشخْ، بل أصبحتُ أكثرَ شباباً، وازدادَ شعري سَواداً. أخذتُ أتفلسفُ في دلالاتِ دوري المركَّبِ، منها بما أنَّ وجودي كغرابٍ ناعقٍ  بينَ المحيطينَ نذيرُ شؤمٍ لشحَّةِ أوكسجينِ الحياة، وأنّ متاعبَهم فيها ستتفاقمُ، فالغرابُ الضاحكُ هو بمثابةِ انتعاشِ ورودِ الربيع في حدائقهم.

لكنَّ المخرجَ هدّدَ بطردي من العملِ، وانقطاعِ رزقي، إنْ لم أؤدِّ الدورينِ معاً في مسرحيةٍ اسمُها "تراجيكومك"، حينما أضحكُ تهطلُ دموعي غزيرةً، وحينما أبكي ينفتحُ شدقايَ على آخرهما، وتصابُ عينايَ بالعطش.

ظللتُ أتساءلُ.. هل هذا المخرجُ، هو كما الربُّ الذي يبعثُ ملاكاً، يجبرُني على الخروجِ من النصِّ، وبأن أقولَ ما قالهُ ممثلٌ كوميديٌّ قلبَ الحياةَ من ملهاةٍ إلى مأساة.  

شعرتُ بأنَّ رأسي امتلأَ ريشاً أبيض، وأنّ الملاكَ زوّدني بجناحينِ. المخرج انشدهَ لما يحدثُ على الخشبةِ.. صرخَ: هذا خروجٌ كاملٌ على النّص، سنظلُّ نضحكُ جميعاً، طوالَ يومِنا وينبتُ لنا ريشٌ أبيضُ. 

خلاص.. الحياةُ أكملتْ كتابَ مأساتِها لنتحولَ إلى غربانٍ بريشٍ أبيض. امتلأت رؤوسُ روّاد المسرحِ ريشاً أبيض، كانوا يضحكونَ في أثناءِ وفي بعدُ ما قلتهُ أنا من دونِ خشيةٍ مما بعد السِّوى: "تخيَّلوا، إذا متُّ أمامكمْ جميعاً هنا".

 تَصوروا الأمرَ نكتةً، وخرجوا من المسرحِ مردّدينَ وهم يقهقهون.. مات "تراجيكومك"، حلّق "تراجيكومك"، نحن سنحلّق أيضاً في الطرقاتِ والبيوتِ.. تعالَ يا موتُ لستَ بسيئٍ، أنتَ جميلٌ، نحنُ مزهوونَ بريشكَ الأبيض. نحنُ غربانٌ ضاحكةٌ في كواليسِ الدنيا.. لا نحيا.. ولا نموت.