سلام مكي
لعل الكثير من كتاب الرواية، عمدوا إلى جعل رواياتهم، وثيقة إدانة، سواء للسلطة أو للمجتمع أو للذات حتى، لكن رواية "الولد الغبي" للراحل حسن العاني، تدين الإنسان قبل أيِّ شيء! فالعنوان الذي يبدو عادياً، صفة وموصوفاً، يكاد يكون مجرداً من الطاقة البلاغيّة أو التعبيرية، وحده من دون قراءة الرواية كاملة. والعنوان يكاد يكون مناسباً أكثر من غيره للرواية، التي تتحدث عن بطل أوحد، لا ينازعه أحد سوى ذاته المفقودة.
الولد الغبي، هي رواية نادرة، من زمن غابر، كان الغباء فيه وسيلة للنجاة، والموت في آن واحد! فحين يكون المرء غبياً، فإنّه سيسير بقدميه الى الهاوية، ويمكنه أن يكون غبياً بمحض إرادته لينجو من فداحة الوعي والإدراك، عندما يكون وبالاً على صاحبه. الرواية، تُدين مرحلة من المراحل التاريخيّة التي عاشها البلد والمتمثلة بالدكتاتورية والاستبداد. إنّ ثيمة الرواية، تجمع بين الواقع بتجلياته وبين الخيال الذي يسعى لأن يشكل هالة أو سوراً يحجب الرقيب من الوصول إلى القصد الحقيقي للسارد، كما أنه فرصة مناسبة لشحذ ذهن القارئ ونقله إلى مديات أكثر بعداً من الواقع المعيش.
لكن يبدو أنّ الرواية التي كتبت في الزمن السابق، وطبعت قبل سنين قليلة، سعى كاتبها إلى كشف أوراقه مبكراً للقارئ، من زاوية المقدمة التي كتبها الراحل باسم عبد الحميد حمودي، والذي كشف النقاب عن المخفي، وأعطى صورة واضحة للأحداث قبل أن تبدأ. يقول الأستاذ حمودي في مقدمته: إنّ المجموعة الخامسة أعني: رقصة الموت، قد تقدم بها القاص العاني للطبع نهاية عام 1998 أو بداية عام 1999 ولم يكن تحت هذا العنوان، وإنما حملت عنوان "الولد الغبي" إحدى قصص المجموعة.. غير أني اعترضت، وشددت من رفضي لها.. وبحكم علاقتي الوطيدة شخصيا وأسريا مع العاني أوضحت له في حينها سبب الرفض، لأنّ العديد من أبطالها وطبيعة تصرفاتهم كانت مكشوفة تماما ولا يصعب الاستدلال عليها، فشخصية الباشا كما يسميه الكبار أو الكابتن كما يسميه فريق الاشبال لكرة القدم، على حد تعبير القاص هو رئيس النظام السابق والتوصل الى معرفته والاستدلال عليه لا تعترضه أية مصاعب.. والراحل حمودي كان خبير دار الشؤون الثقافية العامة، وقد رفض نشر هذه الرواية في وقتها، لخوفه من النظام آنذاك. إنّ هذه المقدمة، أسهمت بوأد أية تأويلات أو أفكار ممكن للقارئ أن يختلقها في الرواية، لأن من يطلع على تلك المقدمة، لن يتحرر منها بسهولة عند قراءته للرواية، فلو أنها بقيت بلا تلك المقدمة، لأطلق العنان للقارئ أن يبتكر ما تجود به مخيلته من أفكار، وأن ينتقل بالأحداث التي مديات أوسع من التي حبستها بها المقدمة.
إنّ الثيمة الأبرز في الرواية والتي توشح بها العنوان "الولد الغبي" تشير وبشكل صارخ إلى عجز الإنسان عن التفكير، والخضوع الأعمى للقوى الخارجية المتحكمة به "الباشا" وامتناعه عن سماع صوت الحكمة والعقل المرادف لصوت الباشا الفوضوي والخالي من العقل والمنطق وهو والده الذي كان وحده يعرف الحقيقة، لقربه من الباشا ومزاملته له في السجن. تثير الرواية إشكالية ما زلنا نعيشها في يومنا هذا، وهي التحرر من سطوة الآخر/ القوي الذي يملك زمان القوة ويستأثر بالإمكانيات المادية وحتى الروحية.
لم يكتفِ بطل رواية "الولد الغبي" بأن يتجرّد من حريته وتفكيره لصالح الباشا، بل تجرّد أيضا من أناه، ومن كبريائه الذي جعله من الماضي، لمجرد أن الباشا طلب منه ذلك.
- أنا يا سيدي الكابتن في الحقيقة.. فقاطعني من غير أن يبدو عليه الغضب "اسمع يا ولدي: الطيبون مثلك لا يصح أن يقولوا في حضرتي أنا يا سيدي، تعلم تخاطبني هكذا: يا سيدي الكابتن أنا..".
فالباشا، لم يقبل أن يبدأ الولد كلامه بكلمة أنا، بل يجب أن تكون تلك الأنا في نهاية الكلام، والبداية تبدأ منه. وللأسف ذلك الولد، بقي ملتزماً بأمر الباشا، ليس معه فحسب، بل مع جميع من سيصادفهم في حياته المقبلة. فكل موقف يتحدث فيه البطل "الولد الغبي" لا بد أن يقدم الطرف الآخر معه: كنا، سارة وأنا نتفنن في لعبة الانتشاء الجسدي... لعل هذا النسق المخفي من الرواية، وما سعى لإيصاله العاني، إلى القارئ، يشير الى سعي الدكتاتور الى مسخ الهوية وتغييب الذات ومسحها من الوجود، واستبدالها بذات الحاكم. لكن المشكلة التي أثارتها الرواية، أن تغييب الذات الإنسانية لم يتوقف عند الحاكم فقط، بل أصبحت صورة دائمة ونسقاً ثابتاً. فالعاني إنّما يريد أن يدين الإنسان قبل السلطة، الإنسان الذي قبل أن يكون كالميت بيد السلطة، تشكله كيفما تشاء، مع غياب تام للإرادة الداخلية والقوة الكامنة في داخله والتي بددتها السلطة وساعدها في ذلك الخضوع التام والكامل.
أما السلطة، فهي كيان دموي، يسعى لتجريد الإنسان من كل شيء، وهي تسعى لامتلاك كل شيء، تمتلك الانسان أولا، ثم الحجارة وحتى المسجد والقائم على المسجد. العقوبة الوحيدة التي تم درجها في قانون العقوبات بالنسبة لها هو الموت ولا غير! وهي بفكرها المحدود والقائم لا على إقصاء الآخر، بل قتله، هي صورة من صور التردي العام، ووجودها أخطر من وجود الاحتلال، ولعلها أبشع صوره، فهي احتلال للعقل والفكر وحتى الروح، ولعل غباء الولد/ البطل، جاء من الخضوع التام للسلطة، والتجاهل لصوت العقل والحكمة، والده الذي تم قتله بطريقة لا تثير الريبة ولا الشك، من قبل السلطة التي كانت تخشاه. لقد وضعنا الكاتب أمام مأزق حقيقي، عندما جعل من الولد الغبي، هو المنافس الوحيد للباشا.
- أنت تقلّد الباشا تقليداً جعلنا نتوهم أن الباشا هو نفسه الذي يلعب! ثم يعود الباشا ليقول للولد: لقد بدأت تنافسني يا ولد، هل سمعت ما قال؟ وأشار بعينيه الى المسؤول الإداري وهو يبتسم فقلت له: أنت يا سيدي الكابتن لا تنافس، وأنا مجرد مقلّد يحاول أن يتعلّم أسلوب الأسطورة في اللعب! للأسف كان الولد الغبي هو منافس وحيد للباشا، لكن تلك المنافسة، كانت موجودة في داخل الباشا نفسه، لأن الولد الغبي، لم يجرؤ على الإقدام على مجرد التفكير بذلك! وبذلك يخبرنا الكاتب أن المنافس الوحيد للسلطة، هذا فقط! في نهاية الرواية، يقول الولد الغبي: انتابني شوق لا يقاوم لزيارة أبي والبكاء عند قبره.. وكنت في الحقيقة أتلهف رغبة للاعتذار وطلب الصفح منه فقد كان... ولكنني لم أكن.. وهكذا انتهت الرواية. ليست النقاط سوى نصوص عميقة، ومؤثرة، ترك كتابتها للقارئ الذي هو جزء من تلك الحكاية، بل هو مرسل إليه، وما الرواية إلا رسالة صريحة، والنقاط لعلها تشير إلى استمرار الحكاية والعجز عن الاعتراف حتى بالخطأ.