شيءٌ عن الوفرة والاحتجاج

آراء 2025/03/12
...

 أ.د عامر حسن فياض

إذا كان الحرمان هو علة الاحتجاج، فإن الوفرة هي الاحتواء الكلي للاحتجاج على رأي المفكر الالماني هربرت ماركوز (1898 - 1979) ذي الميول الماركسية الواضحة المقترنة بموقف مستقل، ونجد تفسير الاستقلال الذي تمتع به ماركوز تجاه الماركسية في شعوره بعدم ثقة تجاه كل جهاز سياسي، بما في ذلك الحزب السياسي ويمكن تلمس عدم الثقة هذا ليس فقط في نقد ماركوز العنيف للمجتمع التكنولوجي الرأسمالي في دراساته ومحاضراته، ولكن في تحليله النقدي ايضا للماركسية السوفيتية، التي ابدى معارضته لبيروقراطيتها ومركزيتها، التي ظهرت معالمها منذ موت لينين.

هجر ماركوز المانيا في عام 1933 متوجها إلى الولايات المتحدة الامريكية، ليؤسس هناك مع زميله ماكس هيركهايمر معهد البحوث الاجتماعية، الذي عمل فيه ونشر لصالحه بالتعاون مع هيركهايمر وادورنو كتابهم (دراسات في السلطة والاسرة). ثم قدم ماركوز دراستيه المهمتين (الحب والحضارة) و(الانسان ذو البعد الواحد)، ليختلف مع كل من باسكال وكانت وهيجل وماركس، الذين تعاملوا مع الانسان ببعدين هما التكييف مع الواقع وتجاوز الواقع في آن واحد أو هو بعد واحد مركب من الواقع والممكن معاً. 

ولما كانت كل ثقافة وكل تطور في الشخصية الانسانية يرتبطان ببعدي التكيف والتجاوز، الواقع والممكن ويقومان على أساسهما، فان التقدم يشكل تهديداً ملحوظاً لمستقبل الابداع الثقافي والحرية الاصلية التي ينزع الفكر والمجتمع الرأسمالي المتوحش إلى ازالتها، ليحل محلها الانسان الذي يعيش على شكلين من السلوك هما الاستهلاك وتنفيذ قرارات الآخرين، ما يجعل انسان هذا المجتمع جديراً باسم (الانسان ذو البعد

 الواحد). 

ان الفرضية الاساسية في كتاب ماركوز (الانسان ذو البعد الواحد) هي ان التقنيات المتقدمة في المجتمعات الصناعية الحديثة، تمكنها من ازالة التناقضات الموجودة فيها عبر امتصاصها لكل من كانوا يشكلون اصواتاً أو قوى معارضة في ظل الأنظمة الاجتماعية السابقة مستخدمة في ذلك آليتين:

الاولى آلية خلق الكفاية/ الوفرة المادية التي توّلد العبودية بدلاً من ان تكون هذه الكفاية شرطاً مسبقاً للحصول على الحريات الاخرى، حيث تساعد تلبية احتياجات الناس على ازالة احتجاجاتهم وإنهاء اسباب معارضتهم، ليصبحوا أدوات طيعة في يد النظام السائد. أي ان الوفرة التي تحققها التقنية تجعل التشكيك في الوضع القائم والتمرد عليه امرين لا معنى لهما ! لان الوفرة حسب رأي ماركوز من جهة تشبع احتياجات المجتمع المادية، التي قد يقوده النقص فيها إلى موقف الاحتجاج والمعارضة لولا ذلك الاشباع، وهي من جهة أخرى تحفز المجتمع على التكيف مع متطلبات النظام القادر على اشباع احتياجاته المادية، الامر الذي يعني قدرة آلية إشباع الاحتياجات على إبقاء أوضاع ذلك المجتمع على ماهي عليه دون تغيير ويتم القضاء على اي شعور بالمعارضة، وهكذا تسيطر مؤسسات الدولة على الذين ينعمون بفوائدها ومزاياها بفضل هيمنتها على مستوى معيشتهم، لأن زيادة الاستهلاك كفيلة بإضعاف حوافز تقرير المصير لديهم، وأن ماركوز في هذا الكتاب يتحدث عن قدرة النظم الرأسمالية على توطيد وحماية نفسها بفعل التقدم التقني، الذي ساعدها على بلوغ مستوى الهيمنة الكاملة مما يجعل كل احتجاج واعتراض ومقاومة باسم تحرير الانسان نوعاً من العبث.

أما الآلية الثانية فإنها آلية التحكم بالفراغ وصناعة الفراغ ووسائل الاتصال الجماهيري، مما يضمن القدرة على خلق افكار وسلوكيات وعادات مفروضة تربط المستهلكين بالمنتجين بطريقة مقبولة إلى حد ما، وتسهم بدور فاعل في تكوين أنموذج الانسان الذي لا يستطيع أن يقول لا.

لكن أطروحة ماركوز عن الامتصاص الكلي للقوى النقدية المعارضة والمحتجة، تتطلب وتنتج أطروحة مكملة تفيد بأن المجتمع الرأسمالي الاحتكاري قادر على مقاومة كل الازمات الاقتصادية، التي تصيبه وتعرض انتاجيته ونموه واستقراره للاضطراب، الأمر الذي ينتهي إلى تفنيد ونفي الفكرة القائلة بإمكانية وضرورة تطور القوى التاريخية للتحرر داخل المجتمع القائم، بسبب مجموعة عوامل أهمها المكننة الاوتوماتيكية، التي تقلل من العمل الجسماني بما يقلل شعور مستخدميها بالاضطهاد ويساعده على مماثلة نفسه مع الجماعة التقنية، وكذلك بسبب التناقض المستمر في عدد العاملين المنتجين من ذوي الياقات الزرقاء والازدياد المستمر في عدد العاملين غير المنتجين من ذوي الياقات البيضاء، لتصبح الحدود بين الطبقات غير دقيقة ولا واضحة الأمر الذي يخفي الاستغلال الحقيقي.. بالنهاية فإن الوفرة تمنع التفكير في نقد الواقع أو تجاوزه، وتجعل من الفرد كائنا من السهل احتواؤه وإدماجه في النظام المفروض عليه من أعلى، أي انسان ذي بعد واحد محكوم بنظام بيروقراطي محض.

إن متابعة أفكار هربرت ماركوز كأنموذج لإفكار مدرسة فرانكفورت، تسمح بالقول إن مفكري هذه المدرسة سلكوا سلوكا انتقاديا تجاه المجتمعات الرأسمالية والاشتراكية المعاصرة معا، عبر اعتمادهم للنظرية النقدية، التي تأكدت مقولاتها أكثر فأكثر مع تطور هذه المجتمعات، وبلغت هذه الانتقادات ذروتها في نهاية عقد الستينيات من القرن العشرين، ووجدت تجسيدها في ثورات الطلبة في أوروبا وأمريكا، ما ساعد على ظهور افكار جديدة استندت إلى أفكار مدرسة فرانكفورت، وقامت عليها وتبلورت هذه الافكار الجديدة في تيار حمل اسم اليساروية.