طالب سعدون
كيف نحارب الجوع بالجوع؟ سؤال يبدو غريبا.. لكن عندما نتأمله بإمعان نجده طبيعيا.. بل هو قانون إلهي عندما شرع الله الصوم في رمضان.. فلسفته تقوم على الجوع ليس لذاته إذ بإمكان الإنسان أن يصوم عن الطعام والشراب ساعات تتعدى اليوم وأكثر، بل هو لتجربة اثر الجوع على الآخر بسبب الفقر ليستقيم سلوكنا على مدى عام كامل.. أو في الأدق أن (معايشة) الفقير لثلاثين يوما كافية لمعرفة اثره عليه في كل النواحي في حياته وليس لأسباب يختارها الانسان لنفسه لغاية صحية (رجيم) أو رياضية أو لأسباب اجتماعية أو غيرها.
والمفارقة العجيبة أن العالم رغم التقدم التكنولوجي والاقتصادي الهائل وفي ميادين الحياة الاخرى بكل تفرعاتها لكن الفقر ورديفه الجوع في تزايد على مستوى الأرض، رغم ما عليها من خيرات كثيرة تكفي من يعيش عليها من المخلوفات كلها وليس الإنسان فقط.. والسبب ببساطة غياب العدالة وتخلي الإنسان عن دوره الانساني والشرعي.
والاعجب أن الامم المتحدة حددت يوما للفقر كل عام ( 17 تشرين الاول) لم نلمس شيئا ذا قيمة في تقليل نسبة الفقر في العالم، بل في زيادة وارتفاع في نسبة الوفيات والأمراض والجوع. ومع ذلك تقل نسبة المساعدات من الدول المتمكنة إلى الفقراء.. وربما تجد من الاغنياء ما ينفقه على الكلاب والقطط اكثر مما يعطونه للفقراء.
في تقرير برنامج الامم المتحدة الانمائي السنوي بالتعاون مع مبادرة اكسفورد ظهر (أن اكثر من مليار شخص في العالم يعانون من الفقر الحاد، ونصفهم من القاصرين). النتائج جاءت اعتمادا على بيانات من 112 دولة يقيم فيها 6،3 مليار شخص.
هذه الارقام وغيرها الكثير تؤكد الفضيحة الاخلاقية التي تلاحق اثرياء العالم التي تزداد ثرواتهم، بحيث تتجاوز الناتج المحلي لكثير من الدول الفقيرة.
كما تؤكد أن الفقر في العالم أكبر من قدرة الدول منفردة على معالجته، أو القضاء عليه، دون مشاركة، وتكافل إنساني وتعاون على المستوى المحلي والدولي - الرسمي والشعبي - في هذا العمل الاجتماعي الكبير.
والتكافل رغم أنه من واجب الانسان اجتماعيا، لكن الله سبحانه وتعالى لم يتركه دون الزام وتشريع، وما يترتب عليه من ثواب وعقاب، فشرع الزكاة والخمس، وعدهما من الاعمال التطوعية في المساعدة لتحقيق هذا الهدف الانساني النبيل.
ولك ان تتصور قيمة ما يقوم به المكلف بهذا الواجب، والتضحية العالية فيه، أن يصل ما يدفعه (الخمس) إلى عشرين بالمئة من ثروته، إلى أصحاب الحق فيها.. وهو مبلغ كبير، لكنه يدفعه براحة تامة، وطيب خاطر لأنه يبتغي رضا الله، وثوابه عظيم في مساعدة الفقير والمسكين ومن انقطع به الطريق.
وشهر رمضان الكريم ممارسة روحية وبدنية تدفع الصائم إلى الانتباه إلى تأثير الجوع على الانسان، فيحس بمعاناة أخيه الفقير وتطلعه إلى ما يسد حاجته من الغذاء والدواء، لكي يتمكن من أداء ما عليه من التزامات في الحياة، وهذا العمل يزيد من اللحمة الاجتماعية والتكافل والمودة والتراحم والتودد والمحبة وتعزيز الروابط الروحية بين الأفراد والدول.
الجوع مدرسة إيمانية وليس عبادة شكلية.. فلسفة الجوع ليس أن تصوم عن الأكل ساعات معدودة لتفطر بعدها على مائدة فيها ما لذ وطاب من الأكل والشراب أو تكلف آلاف الدنانير، وربما تكفي لأيام وليس لوجبة واحدة، أو ترمى في سلة المهملات أو البعض يتفنن في اختيار الاكلات في رمضان وله في كل يوم (اكلة) جديدة.. لم يشرع الصوم لهذا الهدف ابدا.
وقد تنبه نائب كندي (ماك أولاند) عن الحزب الليبرالي - وهو غير مسلم – إلى أهمية الصيام في تعميق الاحساس بألم الجياع والفقراء والمحتاجين، وبعد ان جربه اعتبره (تجربة لا توصف) في معرفة معنى الجوع، وجعله يفهم أكثر كيف يحس به الفقراء في العالم وأكد في مداخلة داخل البرلمان... أن العمل الخيري يعطي فرصة للتعامل مع قلة الغذاء لدى الفقراء، داعيا إلى استخدام قوة هذا الشهر في مساعدة الاخرين... ولهذا فهو يدعم منظمة تسمى (العطاء 30).. وهي منظمة انسانية تهدف إلى محاربة الجوع في كندا وعبر العالم. وفي كندا ايضا توجد في كل حي جمعية خيرية تطوعية يطلق عليها بنك الغذاء ومؤسسات الرحمة وغذاء من اجل الحياة لتوزيع الغذاء والملابس على الفقراء - كما نقل لي احد الاصدقاء المقيم هناك والمشارك في هذه المؤسسات التطوعية الخيرية -
فلسفة الصوم تقوم على ( الجوع وليس الشبع)، والجوع ليس هدفا لذاته، بل لكي نفهم ونعرف كيف نتعامل مع نعم الله علينا، ونقدر قيمتها، ونعي حرمان الفقير، والجائع منها، لكي نمد يد العون له، ونكون سببا في إشباعه ليس في شهر واحد، وانما على مدار حياتنا.
وبإدراك هذا المعنى نعرف مسبقا، أين نضع أنفسنا من هذا الخطر الكبير الذي يهدد البشرية وما هو دورنا لأنه مشكلة انسانية كبيرة، ومعضلة معقدة تواجه العالم، وتأثيره لا يقتصر على عدم كفاية دخل الفرد لمستوى معيشة لائق يحقق فيه كرامته الانسانية فقط، بل يتعدى إلى جوانب سياسية، لها انعكاسات سلبية على دوره المؤثر في صنع القرارات، وفي التعبير عن الرأي، والعملية الديمقراطية عموما..
وصف دقيق للفقر بكل اشكاله ومعانيه ورد في عبارة نقلت عن الامام علي (ع) ان الموت الحقيقي هو الموت الاصغر اما الموت الاكبر فهو الفقر..
(حاشى لله) أن يترك الفقراء لكي يموتوا من الجوع بل فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء.. وحسب المعادلة التي ذكرها الامام علي.. ما جاع فقير الا بما متع به غني.. والله تعالى سائلهم عن ذلك يوم القيامة..
فهل يدرك الاغنياء مسؤوليتهم عن الفقراء وحقهم الذي فرضه الله لهم في اموالهم؟
لو اتبع العالم هذا النظام الإلهي لما بقي فقير يموت من الجوع، ولما وصل الفقر إلى هذه الارقام الكبيرة ليشكل ظاهرة عالمية بعد أن تحول العالم الآن إلى جزيرة اغنياء تحيط بها بحار من الفقراء على حد تعبير أحد الرؤساء
الأفارقة.