زيلينسكي وبيدر السياسة

آراء 2025/03/12
...

 علي لفتة سعيد


لا يبدو على زيلينسكي أنه ممثل كوميدي، ربما كان في الصف الأول من ممثلي أوكرانيا أو من الدرجات الأخرى، لكنه رئيس دخل حربًا غير متكافئة مع روسيا، التي تمتلك ترسانة واسعة من الأسلحة المختلفة والمتنوعة، والتي لا تنضب حتى لو استمرت الحرب عقودًا.

زيلينسكي، ربما كأي رئيس دولة، قد أخطأ في توقع مدى مساندة أمريكا له حتى النهاية، وربما أخطأ أيضًا في تقدير المواقف الأوروبية، باعتبار أن الجميع يقف ضد روسيا في محور أمريكا والناتو. وربما يدرك، أو لا يدرك، أن السياسة تقوم على المصالح قبل أن تكون مواقف ومبادئ؛ فما يكون معك اليوم قد يصبح ضدك غدًا، أو يغدر بك في أي لحظة إن تحققت مصالحه مع الجهة الأخرى، أو إذا وجد أن حسابات الربح والخسارة لا تصب في صالحه، أو أن ما سيجنيه مجرد فتات لا يستحق العناء.

زيارته إلى أمريكا أكدت له أن السياسة قد تخذله، وأن الرئيس الأمريكي رجل غير مضمون، إذ جاء إلى الرئاسة من منطلق اقتصادي بحت، حيث تحكمه معايير الربح والخسارة وأي الكفتين ترجح في الحسابات. فقد قال ترامب إن زيلينسكي “دكتاتور”، لكنه أثناء زيارة الرئيس الأوكراني غيّر موقفه بطريقة ساخرة، وكأنه يدرك أن الرئيس الأمريكي يتخذ قراراته بناءً على اللحظة، فنفى تصريحه السابق أو تظاهر بعدم تذكره قائلاً بذكاء: “هل قلت هذا حقًا؟».

موقف الرئيس الأوكراني خلال اللقاء الذي أصبح علامة من علامات البيت الأبيض في استقبال الرؤساء لم يكن غبيًا. كان أمام خيارين: الاستمرار في المواجهة المكلفة مع روسيا، التي تستهلك الاقتصاد والبشر، وربما تحرق الأخضر قبل اليابس في أوكرانيا، أو تنفيذ طلب الرئيس الأمريكي بتقديم تنازلات اقتصادية تعوّض الدعم الأمريكي الذي قارب 300 مليار دولار، وهو مبلغ ضخم في حسابات ترامب الاقتصادية. المقابل كان واضحًا: ثروات أوكرانيا المعدنية النادرة، التي تحتاجها أمريكا في صناعاتها المتطورة للدخول في سباق علمي جديد مع روسيا.

ربما رأى زيلينسكي أن خسارة جزء من ثروات بلاده أهون من استمرار الحرب مع روسيا، فاختار “أقل الخسائر”. لكنه كان حادًا أيضًا، إذ شعر بالإهانة من الطريقة غير الدبلوماسية التي تعاملت بها أمريكا معه. خاصة أنه أدرك سبب وجود نائب الرئيس الأمريكي في الاجتماع، وهو الشخص الذي كانت له مواقف عدائية ضد أوكرانيا عندما كان عضوًا في إحدى الولايات الأمريكية. وعندما تحدث النائب بأسلوب مستفز، ردّ زيلينسكي بالمقاطعة والاعتراض، رغم أنه كان يجلس على طرف الكرسي، بينما كان الرئيس الأمريكي يرفع إصبعه، موجهًا انتقاداته المعتادة للرئيسين السابقين، أوباما وبايدن، في تصرف بات مكررًا في تصريحاته الإعلامية.

أما عن عدم ارتداء زيلينسكي للبدلة الرسمية، فقد لا يكون مجرد استمرار لأسلوبه حين كان ممثلًا كوميديًا، بل ربما أراد أن يعكس واقع بلاده التي تعيش أزمة حرب مأساوية. ومع ذلك، لم يكن أمامه سوى خيارين: إما المقاطعة والمخاطرة بالخروج عن الأعراف الدبلوماسية، أو الاستماع والتنفيذ، ليحفظ ماء وجهه على الأقل. فاختار الخيار الثاني، مدركًا أن أمريكا بحاجة إلى أوكرانيا، ليس فقط كطرف مناوئ لروسيا، ولكن أيضًا كمصدر للمعادن النادرة، وكدليل على أن أوروبا لا تستطيع الاستمرار في دعمها لأوكرانيا دون أمريكا. لكن السؤال الأهم الذي يطرح نفسه الآن في الساحة العربية: كم رئيس دولة عربية يمكنه أن يكون مثل زيلينسكي، الذي واجه الضغوط ودافع عن مصالح بلاده، حتى وإن لم يكن منتصرًا؟ كم رئيسًا سيمثل بلاده بجدارة، بدلًا من أن يكون مجرد اسم في قوائم الرؤساء الذين لم يواجهوا الخسائر الوطنية ولم يدخلوا التاريخ؟