حالة احتضار

ثقافة 2025/03/12
...

  حاتم حسين


بكيت كثيراً وأنا أتذكّر معاناته، وهو يدّسُ رزمة النقود بيدي ويقول لي: خُذيها يا أختاه، فأنتِ أحوج منّي. ربّما سِمع ما دار بيني وبين أمّي التي شرحت لها قسوة الظروف، وصعوبة الأيّام التي نعيِشها في شهر رمضان المبارك. والتي  جعلته يتعاطف معي بهذه السرعة التي جلست فيها إلى جنبه، وهو يهبني هذا المبلغ غير المتوقع؟ لم أدرك أنه يقارع الموت في هذه اللحظة.  وهو يدعو  يا رب  خفّف عليّ سكرات الموت، استغربت من  دعائه الملفت للنظر. فكّرت وقلتُ في نفسي وأنا أُتابعه، ربّما هي أزمة قلبية عابرة  وسوف تمضي، كانت لحظة فرجٍ مشوبة بحزن، وأنا أمسك بيدي المبلغ.. وكذلك لحظة ألمٍ  أيضا، وهو يتوجّع أمامي بصمت. لا تُريد الأزمة أن تغادره، أو تتركه بسلام، وأنا أختلس النظر إليه بين لحظة وأُخرى، وأتابع حالته وهو يدعو بحرقة والم، وأنا أتفرّس بوجهه. 

يردّد بصوت لا تكاد تَسْمعُه "أشهد أن لا إله إلّا الله، وأشهد أنّ محمّدآٓ رسول الله" ثلاث مرات. لم أكن أعلمُ أنّه في حالةِ احِتضار، وضع رأسه على نافذة السيارة "قلت له: 'اشبيك أخوي". قال بألم شديد: "راح أموت". كان جبينه يَتَفصّدُ عرقا رغم شتائنا القارس، وبين صعود ونزول في المحطات من قبل ركاب الحافلة، بقيت أترقّب أن تبدر منه حركة، أو نأمة. 

وقبل وصولنا الى المرآب المخصص. ناديت على السائق: "أخي أرجوك تعال شوف الرجل يمكن مات؟ مابي حس ولا نفس"، فما أن سِمع السائق ندائي حتى أوقف فرامل سيارته، ونهض من مقعده ليتفحص الرجل، حاول إيقاظه، كان جسده باردا، فقد تبيّن لجميع  الركاب بأنّ الرجل قد فارق الحياة، أستغاث السائق بالركاب الذين فزعوا وهبّوا، وتعاطفوا مع الرجل الميت، قال أرجوكم لا أحد يترجّل أو ينزل من السيارة، علينا أن نصل إلى مركز الشرطة  لتكونوا شهوداً على موت الرجل، وهو جالس في مكانه.. أرجوكم هذه أمانة ومسؤولية؛ هناك توقّفت السيارة، وصعد ضابط التحقيق،  وتفحّص الجثّة، وتأكّد هو أيضا أنّ الرجل قد مات؛ سلّمت المرأة التي كانت بجانب المتوفّى "الموبايل" الذي كان على الكرسي للضابط  الذي أخرج من جيبه مستمسكاته، وهويّته التي تُثبت  بأنه كان معلماً، حينها أُخذت شهادة الركاب جميعا، فالرجل مات بأجلِه المحتوم دون أن تظهر على جسده أيّ أعراض مستريبة، سِيقت الجثّة الى المشفى، ووضعت في الإسعاف الفوري، وتمّ إخبار ذويه الذين حضروا سريعا، بقيت معهم حزينه، أشاهد ذويّ  الميت. وأهله وزوجته، وبجيبي رزمة النقود التي أهداني أيّاها، تردّدت أن أعيد المبلغ وأسلّمه إلى أهلهِ، وأخبرهم بأنّي أنا التي كنت جالسة إلى جنبه، وشهدت لحظاته الأخيرة  وهو صائم، بل شهدت تقوى وإيمان الرجل بالله تعالى، وهو يردّد الشهادتين، لكنّي تراجعت، وأنا في غاية التأثّر، وهو يودّع حياته، لأحفظ له موقفه، وذكراه وكرمه، ربّما أراد أن يُخلّد ذكرى جميلة في نفسي، وهو يشعر بدنو أجله، ويصنع معروفا لي، وكأنّه طوّقني بقلِادة ذهبية في عنقي، لا أقدر على نسيانه. 

مَشَيْتُ خارج المستشفى بعينين دامعتين، ألم يقولوا إن الأعمال بخواتيمها؟ صورة المعلم ماثلة في ذهني، والذي خرج من قبضة الشيطان في لحظاته الأخيرة، وردّد الشهادتين  بل تبرع لي  وهو مُقبل على عالم آخر "يقول لي: خذيه يا أختي فأنتِ أحوج منّي". كان الرجل قلق النظرات  مع شحوب واصفرار يغمض عينيه بألم يجوب في صدره. وصلت البيت، وجلست بين أطفالي، وبحتُ لهم سرّ هذا اليوم الغريب، الذي عَشْتُه بمرارة، وبسيلٍ من المشاعر والدموع  وأنا أسرد لهم حكايتي مع الرجل المعلم، الذي كان ذاهباً  لجلب حصته التموينية وهو صائم مثلما أخبرني.. لكنّ مخالب الموت، وقبضته لم تمنحه الفرصة. 

الغريب في الأمر أنّه لم يصرخ أو يستغث بأحد، كأنّه يتبادل مع حبائل الموت لعبة تستهويه، وهو يعلم أنّه مشرف على الموت ويأمل أن يموت بين أحضان أهلهِ. جذبني نحوه إيمانه العميق، بأنّه ذَاهبٌ الى عالم آخر.. كحالم بعالم مطمئن. شعر بالراحة معه وهو  في لحظاته الأخيرة. مضت الساعات سريعة، وأنا  تحت وطأةِ  أحاسيس هذا اللقاء الذي بدأ في السيارة، وانتهى فيها. وقفت في المطبخ بلا رغبة ولا نفس لأقوم بتجهيز مائدة الإفطار. كُنّا صائمين أنا وصِغاري. تداخلت روائح الطعام مع آذان المغرب  تُردّد  في المؤذن 'الله اكبر' وقفنا جميعا نصلي. بعدها قرأنا سورة الفاتحة على روح المعلم.