تنوّعُ البناءِ اللحني في الابتهال الديني

ثقافة 2025/03/12
...

مهدي هندو الوزني


يعدُّ الابتهال الديني من أهم أشكال التعبير للموسيقى الروحيَّة التي تعكسُ مشاعر الخشوع والتضرع الى الله ووفقاً للسياق التعبيري، ويتميز بناؤه اللحني بالتنوع والثراء معتمداً على عوامل عدة منها التدرج اللحني والتنوع المقامي والإيقاعي، ويعدُّ تنوع البناء اللحني في الابتهال الديني عنصراً جمالياً يجمع بين التأمل الروحي والإبداع الموسيقي، وهذا ما يُلاحظُ من خلال التباين في الاشتغالات اللحنيَّة التي يضعها بعض الملحنين لهذا القالب الإنشادي الديني.


فهناك نوعان من الاشتغالات اللحنيَّة؛ الأول يسعى الى إعطاء الموسيقى ظهوراً أكبر ربما على حساب الكلمة فهو يهتمُّ ببناءات الجُمل اللحنيَّة المركبة والمدروسة ويهتمُّ بالمقدمة الطويلة وكذلك الاهتمام بالتوزيع الموسيقي الاوركسترالي وتوظيف الآلات المتعددة منها الغربيَّة والشرقيَّة في إظهار مديات التعبير الموسيقي ، كذلك الاهتمام بالبناء الهارموني والكونتربوينت والغناء البوليفوني، ومن أمثلة هذا النوع ابتهال (منهل الإيمان) للموسيقار اللبناني (توفيق الباشا)، فالمستمع لهذا الابتهال يلحظ هذه البناءات اللحنيَّة.

يبدأ ابتهال (منهل الإيمان) الذي بني على مقام الحجاز بمقدمة موسيقيَّة طويلة تقارب الأربع دقائق في بناءٍ مركبٍ وتوزيعٍ أوركسترالي للآلات الوتريَّة والنفخيَّة والإيقاعيَّة وهذا البناء اللحني لا يقتصر على المقدمة الموسيقيَّة، وإنَّما يشمل الابتهال بالكامل، هذه المقدمة التي أراد منها (الباشا) أنْ تصورَ التقرَّبَ من الله بالإيمان والتطهر حتى الوصول الى دخول الآلة الشرقيَّة وهي آلة القانون في بناءٍ لحنيٍ حرٍ شبيهٍ بالتقاسيم ليمهد الى الغناء الانفرادي الذي يفصح عن التضرع والدعاء لينتهي بدخول الكورال بغناءٍ لحني بوليفوني.

لقد اشتغل (توفيق الباشا) في هذا لابتهال على البنائيَّة اللحنيَّة الغربيَّة للصوت البشري وللآلة الموسيقيَّة والاهتمام بكل العناصر الموسيقيَّة من توزيع وهارموني وغيرها.

أما النوع الثاني من أنواع البناء اللحني للابتهال الديني فهو الاشتغال على خلق حالة وجدانيَّة متكاملة تتفاعل مع مشاعر المستمع عبر بناءات لحنيَّة بسيطة ومكررة تخاطب العاطفة وتفسر وتركز على الكلمة التي هي أساس موضوعة الابتهال المرتبطة بالفعل الإيماني الآني لإنسانٍ من دون الدخول في التعقيدات من توزيعٍ وجملٍ لحنيَّة مركبة والعديد من الآلات الموسيقيَّة ومن أمثلة هذا النوع من الابتهالات هو ابتهال (يا إله الكون إنَّا لكَ صمنا) للموسيقار روحي الخماش.

يبدأ ابتهال (يا إله الكون) الذي بُنيَ على مقام العجم بمقدمة موسيقيَّة قصيرة وبسيطة تعزفها الوتريات ومن ثم تعاد من قبل آلة التشيلو وبعدها يدخل الكورال للمناجاة والدعاء وهذا البناء يتكرر لنهاية الابتهال، وبرغم وجود انتقالات مقاميَّة أدخلها (الخماش)، إلا أنَّها لم تصل الى الثراء المقامي في النوع الأول من البناء اللحني للابتهال وذلك لضيق المساحة اللحنيَّة التي دائماً ما تكون مرافقة لنوع البناء اللحني الثاني ودائماً ما تكون بالنسق التعبيري البسيط ذاته، ولكنه يفسر العمق الدلالي للكلمة التي تلامسُ العاطفة الإيمانيَّة للمتلقي المستمع وهذه البناءات اللحنيَّة البسيطة تخلق جواً من السكينة والهدوء النفسي، من هنا نلحظ أنَّ هناك تبايناً واضحاً في الاشتغالات البنائيَّة اللحنيَّة للابتهال الديني الذي يعكسُ بدوره التنوع الثقافي وكذلك تنوع الأساليب في إظهار الطابع الروحي والطابع التأملي.