‏ ساحل الكراهيات الثقافيَّة

آراء 2025/03/13
...

  حسن الكعبي 

ما يحدث اليوم من مجازر في الساحل وفي مناطق اخرى من سوريا هو من مخرجات صناعة الكراهيات المنفلتة، التي اسهمت سردياتنا الثقافية والدينية وتحيزاتنا الاعلامية والفنية المنضبطة ضمن هذه السرديات اسهامة كبيرة في صناعتها.

ومن منطلق هذه المسلمة فان هذه المجازر المتخارجة عن الكراهيات تكشف لنا وهم تصوراتنا في ما يخص الطائفية وتمركزاتها العنصرية بذهابها إلى الجماعات الجاهلة أو الامية، واعتقادنا ان مناطق كمون الطائفية وانتاجها للكراهيات المنفلتة – بحسب د. نادر كاظم – لا تتعدى هذا المدار، مستثنين بذلك العاملين بالحقول الثقافية والمعرفية باعتبارهم صناع المفاهيم الجمالية والفكرية التي تعمل على تذويب الكراهيات ومحاربة التخندقات الطائفية والمذهبية وتصحيح مسار المعرفة ضمن هذه التخندق من طابعها الكلياني والحقاني إلى الطابع النسبي المعترف باحقية الآخر المختلف، فالمثقف هو من يمتلك قدرة التأثير والتغيير في مجتمعه أو بالكتلة التاريخية بحسب تسمية غرامشي الذي كان يرى أن المثقف العضوي هو من يكون مؤثراً بالكتلة التاريخية، فهو صاحب مشروع يسعى إلى اصلاح ثقافي يؤدي إلى تشكيل كتلة ثقافية جديدة تحمل وعياً ثقافياً يواجه بهِ الكتلة التاريخية القديمة المكونة من مهيمنات البرجوازية والإقطاع واي تخندقات اخرى تستبطنها الكتلة التاريخية القديمة.

ان تصورات غرامشي تنطلق من محددات الوظيفة الاخلاقية والجمالية للثقافة وللمثقف ولكن هذه التصورات وبرغم من انها كانت المثابات التي شكلت لنا وعينا بالدور الاخلاقي للمثقف الا انها ايضا كانت بمثابة العمى الثقافي الذي حجب عنا رؤية كون المثقفين والمفكرين ايضا هم من اخطر صناع هذا التصورات المنتجة للكراهيات المنفلتة، كما انها كانت من المعوقات الكبرى في التساؤل حول الاسس المسهمة في صناعة هذه الكراهيات، رغم معرفتنا بداهة بان صناعة الكراهيات انطلقت من الكتب الصفراء التي كتبت باقلام ثقافية وفكرية مرموقة، خصوصا مع ظهور الجماعات الارهابية وتغير الخريطة السياسية في العالم العربي، فضمن هذه الفترة ظهرت تحيزات اعلامية وثقافية للارهاب أو تحيزات ثقافية لتكتلات حزبية ضد فئات حزبية أو سياسية أو تحيزات مذهبية أو قومية بادارة وتدبير ثقافي مباشر بمعنى ان هذه التحيزات هي التي نبهتنا إلى هذا النسق الخطير لمفهوم المثقف الطائفي، الأمر الذي سبقنا في الكشف عنه مثقفو الغرب فمع الاصلاحات التي نادى بها مارتن لوثر ظهر التشديد على اصلاح التصورات الثقافية بعد اكتشاف كونها المنتجة للعنصرية الشوفونية وتحديدا في تصورات مفكري الانوار وهذا ما يشكل مفارقة عجيبة في الحيل الثقافية والعابها في تمرير النسق القبحي تحت غطاء الجمالي أو الرجعي تحت غطاء الانواري أو التقدمي أو الشوفيني تحت غطاء المناداة بالحريات الفكرية واندرج ضمن لائحة منتجي التصورات العنصرية اهم مفكري الانوار ومنهم (إيمانويل كانط وديفيد هيوم وفريدريك نيتشه ومارتن هيدجر وإيوجين فيشر). ففي اطار تصوراتهم نشأت فكرة الامتياز العرقي التي اعتنقها هتلر، وأصدر بسببها قانون “التعقيم لتحسين النسل” والتي يؤكد الباحثون اضافة إلى ترشحها عن تصورات هؤلاء المفكرين فانها ايضا ترجع بشكل اخص إلى كتابات المفكر الفرنسي “آرثر غوبينو” الذي يشكل مع هؤلاء حلقة انتاج المفاهيم الشوفينية بوصف هذه الحلقة تضم اهم اساتذة هذه الصناعة والقائمة تطول مع الاسماء الفكرية في هذه الصناعة المشؤومة. 

ظهرت النزعة العنصرية والطائفية في الفضاء العربي في الوقت الراهن وانتاجها للكراهيات بشكل لافت كما يؤكد نادر كاظم (بفضل التقدم المذهل في وسائل المواصلات والاتصالات والإعلام، إلا أن العزلة مازالت قائمة، والكراهيات العريقة ما زالت منتعشة. والسبب أن وسائل المواصلات والاتصالات وسائل مرنة وطيعة ويمكن استخدامها في خدمة الأغراض المختلفة. بمعنى أن الجماعات تستطيع أن تعيد إنتاج عزلتها وكراهياتها بالاستعانة بهذه الوسائل. وإذا كان من شبه المستحيل تأمين العزلة المكانية القديمة في عالم جرى عولمته، وأصبح بمثابة (قرية كونية)، ومشبوكاً من أقصاه إلى أقصاه بشبكات اتصال معقدة ومتكاثرة، فإنه من غير المستحيل، في المقابل، أن تقوم الجماعات بإعادة إنتاج عزلتها الافتراضية والمتخيلة والتواصلية، وهي تفعل ذلك، اليوم، وبالتوسّل بشبكات الاتصالات المعقدة والمتكاثرة) لكن ذلك لا يعني ان تمركزات الطائفية لا تمتلك تاريخا في الانتاج ضمن المساحة الثقافية فقد ظهرت هذه النزعات مع نشوء الدولة القومية وبمعونة من تنظيرات مثقفي الفكر القومي كما يؤكد المفكر الكبير جورج طرابيشي في نقده لفصامية المثقف بقوله : "ثمة منظرون قوميون ذهبوا إلى إنكار واقعة الأقليات إلى حد اعتبارها من صنع الاستعمار، فالأقليات لا ماهية لها في ذاتها، بل هي في أحسن الأحوال مجرد رواسب تاريخية، بل مستحثات ينبغي أن تخضع من جديد لقانون التفتت والذوبان ثم الاندماج، وهي ليست بحال من الأحوال علامة تنوع ومصدر غنى حضاري".  ان نقد المثقف وتحميله مسؤولية انتاج الطائفية لا تعني باي شكل من الاشكال اعفاء المجتمعات المتخلفة والمنغلقة عن انتاج التمركزات الطائفية وكراهياتها المنفلتة بل انها تبقى حواضن خطيرة لانعاش الكراهيات، لكن نقد المثقف يصب في سياق ضرورة عدم تورط المثقف في انتاج الطائفية وخلق الطبقيات العنصرية، كما ان نقد المثقف هنا لا يعني نقد خياراته في متبناياته الايديولوجية، فالمتبنيات الايديولوجية خيار يجب احترامه لكن عندما ينسحب هذا التبني من دائرة الخيار إلى دائرة التبشير المتضمن إقصاء الآخر، فانه لا بد ان يحظى بالنقد والتصدي، فالثقافة والفن والفكر هي مبثوثات تنويرية موجهة للوعي الاجتماعي وهي تنتج ضمن هذه الحدود دون ان تسمح للخيارات الايديولوجية بالهيمنة على مساحتهما.