د. نصير جابر
تمتلكُ اللوحة الحقيقية المؤثرة والمنفّذة بوعي خلّاق ودراية معرفية واحترافية عالية - أو هكذا يفترضُ المنطق الفني السليم – تمتلك هذه اللوحة (هالة) من الجذب الفعّال البليغ والسحر العذب المشروع، الذي يأسرُ من يدنو من حيّزها فيكون في دائرة تأثيرها الحيويّة القامعة، ذلك القمع الايجابي الذي يتمناه المُخاطب، ومن واجبها أيضا ألا تترك المتلقي يغادرها أبدا، بل تصبح جزءا من يومه وهمّه وشأنه الذي لا يفارقه، لأنّ التلقي الآني السريع عندما يدور الزوّار في المعارض بسرعة وعجلة لا يناسب في كثير من الأحيان مثل هذا الأعمال الآسرة، التي تحتاج إلى تأمّل وتسمّر طويل أمامها. تأمّل صامت وقراءة لا لبس فيها, ومن ثمّ تفاعل وتناغم وتحاور دال حتى تكتمل عملية الاتصال اللوني والبصري والشعوري. لينتج المعنى الذي يقصده المتلقي بعد أن أشار إليه الفنان بعلامات ودوال ومحدّدات ودله إلى مقاصده ومبتغياته.
وتلك الهالة المفترضة لابدّ أن تكون دائمة وليست لحظية، برّاقة، فلا تذهب دهشتها بالتكرار، لأنّ العمل الاحترافي سيعطي جزءا من معناه في كلّ مواجهة وسيكون في كل تلقٍ جديد في لغة أخرى جديدة.
وأزعم أن لوحات التشكيلي العراقي ستار درويش تجعل من يراها بعمق يقع في حيّز هالتها الساطع، وشراكها اللونية التي تحاور روحه وتخلل حواسه وتجعل من تلك اللحظات التي يمرّ فيها مشروعا للإقامة الطويلة. فهو يبتكر اللون ابتكارا مدهشا ويؤثث للموضوع بعفوية آسرة، يقول عنها هو إنه: (يرسم بإحساس الطفل ولغة الطفل لأنها أكثر لغة متسامية) وهذه المعادلة التي فرضها هو على نفسه، صعبّت من عمله، لأنّ العمل على الخطاب المتعالي بأدوات عفوية ليس بالأمر بالهين أبدا. لأنه سيصل به إلى ما نسميه في الأدب بالسهل الممتنع، وفعلا كانت مشاريعه الفنية في لوحاته سهلة حد الامتناع!
فالوجوه في أعمال درويش هي فسحة للفرح، والمرح، وعلامة دالة على المشاغبة البريئة, حيث تتشكّل في زوايا خاصة من اللوحة بغضّ النظر عن التوازن، وتوزيع النسب والكتل اللونية، فهي المركز الذي سيجبرك على الدهشة والتساؤل والاستفهام، وهي الأسطورة والحكاية أيضا التي ستبحث عن إكمالها لتفهم مغزى النهاية المتوقعة أو غير المتوقعة، فالشخصيات التي تحتل الواجهة تأخذك إلى مراتع الطفولة والخيال الخصب، ومن ثمّ ففي كلّ لوحة إشارة إلى لوحة ثانية قابلة ستكون خاتمة أو حلقة وصل تجسّر المعنى وتصل ما بين معنى ومعنى، لذا يمكن القول إن أعمال ستار درويش صفحات في كتاب واحد، هذا بغضّ النظر عن كونها نتاج فنان واحد ولا بدّ أن تكون متشابهة من حيث الأسلوب والتقنية، فهنا نحن نتحدث عن تواصل آخر، فاللوحة لها القدرة على فتح مغاليق لوحة أخرى، أو الإجابة عن تساؤل طرح في لوحة ثانية، لأنه يحاول أن يرمم دائما ذكرياتنا التي تحتاج إلى إضاءات متواصلة، ففي لحظة الوقوع في أسر لوحة، ستأخذك إلى لوحة ثانية من حياتك، عشتها ذات طفولة. وستخزك تلك اللحظة لتفرح، لتكون أكثر بهجة في عالم قاتم.
تزدحم في إحدى لوحاته الوجوه الطفولية البريئة وكأنها في حفل أو حديقة عامة، ثمة فرح مبثوث وتعابير مختلفة، تتموسق فيما بينها لتكوّن معزوفة من الألفة والصخب والحنين، ويتضامن معها اللون، لتكون أكثر اتصالا بالحياة ولحظاتها النابضة بالصدق، وفي هذه العشوائية المنضبطة تبدو كل نقطة وخط وحركة في مكانها تماما تؤدي الغرض المطلوب منها في دقّة وابتكار وجمالية عالية.
بدأ ستار درويش المولود في بغداد عام 1966 الرسم مبكرا، محاولا تقليد الرسوم الملونة في كتاب القراءة، لكن معلمه وبخه فصار، يرسم ويخبئ رسوماته، يرسم لنفسه فقط، ثم قاده هذا الشغف إلى التسجيل في معهد الفنون الجميلة، متبعا حلمه ومتمردا على رغبة الأهل، بعدها أكمل دراسته في أكاديمية الفنون الجميلة، وهو من أبرز أبناء جيله، وله مشاركات محلية وعالمية كثيرة, فضلا عن حصوله على جوائز مهمة.