حبيب السامر
لم يجد وقتا كافياً كي يدخر بعض أيامه المسروقة منه عنوة، ويرسمها بخطوط مبعثرة على سبورة الوقت، هكذا يصحو لبدء يوم ممل كالعادة، يعرف ذلك جيداً حين تهتز الأرض القريبة من بيته، هذا يعني أن القطار سيمر بعد قليل، يهرع مع أصدقائه ليضعوا أغطية قناني المشروبات الغازية، ويرقبوا نهاية ذيل القطار ليلاحظوا أنها تحولت إلى قطع ملساء ليمارسوا بعدها طقسهم المحبب برميها عالياً، هذه هي اللحظات السعيدة التي يتذكرها الآن لذلك القطار الذي يشبه الأفعى.
احتشدت في رأسه الصغير الأرقام السرية الكثيرة، التي تتداخل أحياناً، من مدة وهو يعاني من أزمة النسيان المتكررة، يقول بحسرة: هل يعقل أن هذا الرأس الصغير يحتفظ بكل تلك الحوادث والمسرات والمفاجآت والأرقام المتعددة؟، كيف لنا أن نتذكر مناسباتنا العزيزة، تضحك زوجته حين تقول: متى نحتفل بعيد زواجنا كما يفعل الناس؟ ثم تصفن في وجهه وتبتسم! هكذا تكرر الزوجة قولها لتلمح الخجل يتكدس في عينيه حين يغمضهما سريعاً، دوي القطار سحق كل تلك الذكريات.
الحكيمية ببيوتات متناثرة، وسكة حديد، ومعمل نجارة، وقريباً منها معمل البيبسي، وقبالتها معمل السينالكو، وحديقة النافورات التي يقصدها الطلاب لينجزوا واجباتهم المدرسية على عشبها، مساحتها البيضوية تسحرهم كثيراً ليكملوا مواد الامتحان، على الرغم من ضجيج السيارات المارّة خارج محيطها، ما يتذكره هو تلك السكة الممتدة على يمين بيته حين كان يسكن مع خاله" أبو جاسم القصاب" تمر قطارات الحمولة والنفط والبضائع، حقاً لا نعرف ما تخفيه تلك " الفاركونات" الحديدية وهي تفزع النائمين بجلبتها، هكذا يكرر الحكاية دائماً ويتحسر.
مرة، وبحكم طفولتهم المشاكسة لفّت عجلات القطار الحديدية ثياب أحد أصدقائه فهرسته دون رحمة، ومن يومها لم يصل أحد إلى تلك السكة الملعونة، حين شاع الخبر وانتشر سريعاً في منطقتهم- الحكيمية- وساد الحزن فيها لبشاعة المنظر الموجع، فعلاً هي - القطارات - تشبه أفعى تتلوى على سكة، أو ديناصورات هرمة تبحث عن فريستها، القطارات فنادق، وقاعات متحركة تخضهم عرباتها، لا عيون للقطارات وهي تبصر المسافات بعيون السائق، كم تنفث دخان سجائرها تلك القطارات وهي تبحث عن ملاذها الأخير.
تذكر الآن كيف تمضي الأيام كلما صادف صديقاً في سوق مزدحمة، أو في شارع عام، أو مقهى، يبدأ بالتحديق في عينيه طويلاً كي يتذكر اسمه، وفجأة تنطلق الكلمات والعناق، من هنا تبدأ الحكاية عن أيام خلت، يبدو أن حياته تتصدر أحاديثه وهي تستند على ذكريات وتواريخ مرسومة بعناية في صفحات التذكر، حتى حين تضيق الحلول في رأسه، تقفز تلك الأفكار التي اكتنزها من تجاربه الكثيرة، لتضيء لحظة الظلام التي سيطرت على مساحة واسعة من تفكيره، ينتابه الشعور ذاته بأن الحياة قصيرة والمعضلات كثيرة، حين تنحسر الحلول أمامه، يعود للتفكير بالبدايات، قد تكون أسهل الحلول والطرق للتذكير بجماليات البدايات وبساطتها.
بدأ يحدث نفسه، الحياة معقدة والحلول متشعبة، والبقاء صامتاً ليس حلاً ناجعاً، الوقت يمر والطرق المغلقة كثيرة، لا بد من التفكير بأسهل الحلول، هناك من يتيه في غابة، وهناك من يأخذه الموج بعيداً على عكس تصوراته، يبتعد الساحل وهو ينأى في لجج متصارعة، لا بد من البحث عن نجادة توصله إلى بر الأمان. تدور الأحداث وتتشعب الإحداثيات والخرائط والأرقام، ما يسطع في الجانب الآخر هو الحل الذي قد ينقذ تلك التصورات المظلمة والحالات المتراكمة ، نعم، شمعة الحل في تلك اللحظة تساوي كل مصابيح الكون كي يعبر أزمته التي أخذت من وقته وجرف راحته كل شيء، كان يصغي لذاته وهي تحثه على تبديد تلك الفكرة العالقة في رأسه عن قطار يتلوى كل صباح قرب بيوتهم.