د.ثائر العذاري
تشهد الرواية تحوّلاً جذريًا في عصر التكنولوجيا الناشئة، حيث تندمج تقنيات الواقع المعزز (AR) والكون الافتراضي (Metaverse) لإعادة تعريف مفهوم السرد الأدبي. إذ لم تعد الرواية مجرد نص مكتوب يُقرأ بصمت، بل أصبحت عالماً تفاعليًا يسمح للقارئ بالعيش داخل الأحداث، والتأثير في مسارها، وخلق قصصه الخاصة.
في هذا السياق، نجد أن الأدب يمكنه أن يكون أكثر من مجرد قصة تُروى؛ بل يمكنه أن يصبح تجربة حسّية متكاملة. فقد أصبح بإمكان القارئ استعمال تقنيات الواقع المعزز لرؤية الشخصيات وهي تتفاعل أمامه بشكل ثلاثي الأبعاد، وتحليل الأحداث كما لو كانت تحدث بالفعل في محيطه الشخصي. وبفضل الكون الافتراضي، يمكن للكتاب إنشاء عوالم روائية كاملة يصبح القارئ جزءاً منها، حيث يتفاعل مع الشخصيات ويتحكم في مسار القصة كما يشاء. فمثلا، يمكن أن يجد القارئ نفسه في مغامرة خيالية يتنقل فيها بين عوالم مختلفة ويواجه تحديات متنوعة، ما يعزز شعوره بالانغماس والاندماج في السرد.
إن هذا التطور التقني يفتح آفاقًا جديدة أمام الكتاب لابتكار أشكال جديدة من السرد تتجاوز النصوص التقليدية. يمكن أن تكون هناك تجارب أدبية تفاعلية تعتمد على الخوارزميات الذكية التي تولّد حبكات فرعية وفصولا جديدة بناءً على اختيارات القارئ، لتكون كل تجربة قراءة فريدة من نوعها.
اندماج الواقع المعزز مع السرد الأدبي
تعيد تقنيات الواقع المعزز تشكيل تجربة القراءة من خلال دمج العناصر الرقمية مع النصوص المادية. فعلى سبيل المثال، تسمح الكتب المزودة بتقنية AR للقارئ بتوجيه هاتفه نحو الصفحة لرؤية الشخصيات وهي تتحرك، أو لاستكشاف خلفيات ثلاثية الأبعاد للأحداث. هذه التقنية ليست حكرًا على أدب الأطفال، فـ "كونكورديا الجليدية" (The Ice-Bound Concordance) تقدم رواية غامضة حيث يُشارك القارئ في فك شفرات الحكاية عبر تفاعلات معقدة في الواقع المعزز. هنا، يصبح القارئ مشاركًا فاعلاً في بناء المعنى، مما يخلق طبقات سردية متعددة تختلف باختلاف الخيارات الفردية.
كما توفر هذه التقنيات فرصًا جديدة للأدباء لاختبار حدود الخيال والإبداع. حيث يمكن للمؤلفين الآن تصميم عوالم افتراضية تتفاعل فيها الشخصيات مع القارئ بشكل مباشر، مما يسمح بتطوير حبكات وأحداث متشابكة تُعيد تعريف العلاقة بين القارئ والنص. فقد يجد القارئ نفسه في رحلة استكشاف عبر غابة سحرية، حيث يتعين عليه حل ألغاز والتواصل مع مخلوقات خيالية لكشف تفاصيل الحكاية.
الكون الافتراضي بوصفه مسرحا للأحداث الأدبية
الكون الافتراضي – ذلك الكون الرقمي الموازي – يتجاوز فكرة "الخلفية" ليصبح فضاءً سرديًا قائمًا بذاته. في رواية مثل "تحطم الثلج " (Snow Crash) لـ (نيل ستيفنسون)، التي تناولت الكون الافتراضي قبل عقود من تحقيقه تقنيًا، يصبح الفضاء الافتراضي مسرحًا لصراعات اجتماعية وسياسية تعكس تعقيدات الواقع. إذ تُصور الرواية الكون الافتراضي كمدينة رقمية ضخمة حيث يتمكن الأفراد من التجسد عبر صور رمزية (Avatars) والتفاعل مع البيئة والكيانات الأخرى، مما يُضفي على السرد طابعًا جديدًا من التفاعل الفوري.
تتيح اليوم منصات مثل "ديسينترالاند" (Decentraland) للكتاب بناء عوالمهم الروائية كاملة، حيث يمكن للقراء دخولها عبر صور رمزية والتفاعل مع الشخصيات في زمن فعلي. ويمكنهم أن يتجولوا في شوارع افتراضية، ويزوروا منازل الشخصيات، ويشاركوا في أحداث الرواية مباشرةً. وتُعيد هذه الدينامية إنتاج مفهوم "الشارع الأدبي" كفضاء اجتماعي-سردي متشابك، تتداخل فيه القصص مع تجارب القارئ الشخصية، مما يزيد من عمق الرواية وتعقيدها. وهكذا يُصبح القارئ مشاركًا فاعلاً في بناء المعنى، إذ يمكنه اتخاذ قرارات تؤثر في مجرى الأحداث وتُشكل مسار الحكاية.
ولا يقتصر تأثير الكون الافتراضي على الجانب الترفيهي فقط، بل يمتد أيضًا إلى التعليم والتوعية. إذ يمكن توظيف الروايات التفاعلية لتعزيز المفاهيم التعليمية والأخلاقية المعقدة، وجعلها أكثر جذبًا وفهمًا من خلال تجارب تعليمية تفاعلية. فمثلاً، يمكن للطلاب دراسة التاريخ من خلال تجربة أحداثه بشكل مباشر، أو التعرف على الثقافات المختلفة من خلال التفاعل مع بيئاتها الافتراضية. وهكذا يبدو أن مستقبل الرواية في عصر الواقع المعزز والكون الافتراضي يحمل في طياته إمكانات هائلة لتطوير السرد الأدبي، وفتح أبواب جديدة للإبداع والتفاعل.
تفكك الخطية الزمنيَّة
تتخلى الرواية التفاعلية عن التسلسل الزمني التقليدي لصالح بنى متشعبة. في الكون الافتراضي، حيث يمكن للقارئ اختيار مسارات مختلفة تغيّر مجرى الأحداث، بما يشبه ما يحدث في قصة "حديقة المسارات المتشعبة" لبورخيس، لكن بتعقيد تقني أعلى. حيث يمكن للشخصيات أن تنتقل بين عوالم مختلفة بلمسة زر. ويتيح هذا النوع من السرد للقارئ ليس فقط متابعة الحكاية، بل يكون جزءًا منها، يمكنه اتخاذ قرارات تؤثر على مجرى الأحداث وتُشكل مسارها. وتتيح هذه التقنية للمؤلفين استكشاف حدود جديدة للإبداع، حيث يمكنهم تصميم عوالم متعددة الطبقات مليئة بالأحداث المتشابكة التي تُعيد تعريف العلاقة بين القارئ والنص.
الانزياح من السرد إلى التجربة
لم تعد اللغة العنصرَ الوحيد الناقلَ للمعنى. ففي روايات الكون الافتراضي، تُستبدل الكلمات جزئيًا بالمحفزات الحسية: فيمكن للقارئ أن "يشعر" ببرودة الجليد في رواية استكشاف قطبية، أو يسمع همسات الشخصيات من اتجاهات ثلاثية الأبعاد. إن تجربة مثل "أليس في بلاد العجائب" المُعاد إنتاجها بتقنية AR تدمج المؤثرات البصرية والصوتية لتعزيز الغموض السحري للنص الأصلي. هنا، يتحول الأدب من فن لغوي إلى فنون متعددة الوسائط (Multimedia Art).
ومن هذا المنطلق، يتوسع مفهوم الرواية ليشمل جوانب تفاعلية وتقنية تكسر الحدود التقليدية للسرد. فالقارئ لم يعد مجرد متلق للمعلومات، بل أصبح جزءًا من القصة نفسها، يعيش الأحداث ويتفاعل معها بطرق متعددة الحواس. يمكنه أن يتجول في الشوارع الافتراضية، ويكتشف تفاصيل الحكاية من خلال التجارب الشخصية المباشرة.
أرى أننا على أعتاب تغيير جوهري في مفاهيم الآداب والفنون ونقدها، والدراسات الإنسانية عامة، نحن نعيش آخر عصر الكتاب، واول عصر الكون الافتراضي ثلاثي الأبعاد ومتعدد الوسائط.