استعادة المكان وحضوريَّة الشاعر

ثقافة 2025/03/13
...

  نصير الشيخ


يبقى المكان أسا متجذراً في كون الأشياء، لما يؤسسه من معمارية في الوجود، وبما يؤثثه في النفس البشرية من مكامن تستعاد بلحظة زمنية فارقة، تأتي على شكل ذكريات وروائح وصور تنشط فيها المخيلة.

والشعر يكاد يكون الأقدر على بث شفراته في المكان، ليلقى صدى راجعاً من خيالات وأصوات وهمس بعيد يجدد حضوره في القصيدة.

وكاظم اللايذ يفتح لنا مساحة خصبة في مجموعته الشعرية "أم البروم ــ رقعة بسعة العالم"، حيث ذات الشاعر، وهي منقوعة بمفردات البيئة البصرية وطبيعتها، وخضرتها وبساتينها، ومن تفاصيلها تبزغ الصور الشعرية وتنبعث مشهدية النوع الكتابي، حيث الشاعر يلتقط ما يريد لبناء معمارية نصه الشعري. "من عُباد النخل أنا/ أمضيت هنا سبعيناً/ وسأمضي سبيعينا أخرى/ الريح بكفي/ أنقل مقودها،حيث أشاء" ص7.

خرائط الشاعر تتسع حين يحصي الأمكنة الحاضرة في تحديقه، ويستعيد الأمكنة الزائلة والمدفونة ربما تحت تراب الماضي، وتنحسر مساحة رؤيته حين يحاصره الحاضر بكل ثقله، وهو يشهد تجريف الطبيعة الأم بفعل عوالم التمدد الحضري والبناء المستمر، تجريف البساتين ونحر النخل وردم السواقي. لذا يبقى النص الشعري لديه شاهد اثبات لوقائع كانت وحيوات مرت عبر هذا التنافذ الروحي، والذي تتجلى فيه القصيدة للامساك بنبضه ودفقه الشعوري.

في نصه "خفافيش أم البروم" ينفتح المكان مشهداً بانورامياً، أم البروم ــ المقبرة القارة في التاريخ والذاكرة البصرية والمؤلفة لخيالات لا تحصى، حيث الرؤية الكابوسية التي أتت لغة الشاعر بتصويرها، ودرامية الحدث المستعاد وتنويع سرديته، وبما يدفع النص لإيضاح ما يود قوله، مضمراً لنا الكثير من التفاصيل المترسبة في قاع المدينة والذاكرة. "وبعد أن تهبط سدف الليل على الساحة/ بمكانسها السود جارفة الناس الى بيوتهم/ يشرع هؤلاء بالظهور: بأسمالهم وصرائرهم /كأنهم مسافرون" ص35.

القول الشعري في هذا النص يستعيد المكان وشخوصه، ويبصر حركية الفعل الإنساني المغلف برؤاه الكابوسية، ومحرك هذا الفعل هو "الموتى" الذين يغادرون لحودهم لسأمهم النوم الطويل.

مساحة الكتابة لدى الشاعر تتسع في الوصف والمعاينة، وهو يشاهد من حوله ويستعيد الزمن الهارب وتحولات الحاضر. من هنا اضحى القبض على الأشياء وفرك معناها لصبها في قالب شعري يمثل صوته الذي يريد ايصاله الى العالم.ونص "قصيدتي الكبرى" ممثلا لما نقول حيث ذات الشاعر تقف في نقطة مصيرية بين الأمحاءِ في دوامة الحياة الراكضة وغمرة سيولها، وبين التمسك بوجودها كفكر وفعل وصوت، والذي تتكفل بحضوره القصيدة. "ولكن ما أن انتهي منها/ وأتأملها من جهاتها الست/ يتلاشى لها حماسي/ وأصرف عنها وجهي: لا.. ليست هذه قصيدتي الكبرى" ص60.

اللايذ وهو يدون تاريخ مدينته عبر التقاطات شعرية تستمد صورها من ذاكرة خصبة، منقباً في تفاصيل مكانية، مستعيداً نشوة مكان ذاهب للاندثار، ومحاوراً شخوصاً مروا في حياته وتركوا حكاياتٍ على اديم هذه المدينة، لذا جاء النص الشعري عنده مكتسباً سرديته الواضحة، كيف لا وهو منتمٍ لمدينة غائرة في تاريخها المكاني، وحيزها الحضوري والأدبي في القص وسرد الحكايات، وكل ما فيها يملي على الشاعر وهج الكتابة بعد استدراجه مكانياً واستخلاصه من بؤرة التذكر، وهذا ما اتضح في نصوص "بيت الجد/ العمة زكية/ تفسيرابن سيرين ..الخ".

في نصه "سلطان العاشقين" هناك تماهٍ وجودي بين الذات الشاعرة وقطب الصوفية محيى الدين بن عربي، حيث استثمار الزمن، واستعادة الرمز في محاولة ادماج وتوحد بين الشخصيتين عبر هصر الساعات والمسافات، متجلية في لحظة الاشراف على جبل قاسيون حيث مرقد بن عربي، وحضوره المتجدد في فضاء الزمان. لذا يتماهى نص اللايذ في هذا الفضاء الصوفي المحض، وتحولت روح الشاعر وجسده الى طيرٍ بجناحين ترقبه حشود من الدراويش، في لحظة تجلي وفناء بمعشوقه الشيخ وهو المريد.

وللشاعر شهادته عن العصر وتحولاته، ومن ثم تبدلات الوقت واندثار الأمكنة كلها في سلسلة تندغم في لغة الشاعر وقدرته على استعادة ما مضى في صور شعرية ينمحي فيها حد الشعر بالنثر السردي، بغية إيصال شحنة عالية التدفق الى المتلقي.

من هنا تستعاد الذكريات بوقعها، وحسب تشبيه الشاعر"زمردة حملها لستين عاما خلت".. لذا جاء نصه "يوم ابتسمت لي.. على الجسر" استحضاراً لذكرى مرت لكنها احتفظت بوهجها العاطفي كل تلك السنين، إذ جاء النص بلغة حاملة عذوبتها، وبأنثيال شعري دفاق، كشف من خلاله اللايذ تبدلات العصر وتحولات الزمن واندثار الأمكنة، لتبقى القصيدة صندوقاً ذهبياً يحتفظ بذكريات لا تصدأ.