صراع مناهج أم تطور طبيعي؟

ثقافة 2025/03/17
...

  نهاد محمود العزاوي 


شهدت الساحة النقدية في العقود الأخيرة تغييرات جذرية، إذ انتقل النقد من التركيز على النصوص الأدبية ككيانات مستقلة إلى منظور أكثر شمولية يأخذ بعين الاعتبار السياق الثقافي والاجتماعي الذي نشأت فيه هذه النصوص. وفي صميم هذا التحول، ظهرت جدلية النقد الأدبي والنقد الثقافي، في ظل هذا التحول، يطرح السؤال: هل نحن أمام صراع بين النقد الأدبي والنقد الثقافي، أم أن النقد الثقافي يمثل تطورًا طبيعيًا في مسار النقد الحديث؟

ظل النقد الأدبي، بمختلف مدارسه ومناهجه، مركزًا على تحليل النصوص وفق معايير جمالية وبنيوية وأسلوبية، مع التركيز على هيكل العمل الأدبي وعلاقاته الداخلية. فقد عد الشكلانيون الروس أن جوهر الأدبية يتجلى في الخصائص اللغوية والفنية، بينما نظر البنيويون إلى النص كنظام دلالي مغلق. ونتيجة لذلك، انصب اهتمام النقد على تحليل البنية الداخلية للنص، متجنبًا إلى حد كبير تأثير السياقات الخارجية على إنتاج المعنى واستقباله.

ومع ذلك، واجه هذا النهج انتقادات مع ظهور مناهج جديدة في النقد الأدبي، مثل النقد التاريخي الجديد والتفكيكية التي بدأت في تحدي مركزية النص لصالح دراسة العلاقات بين الأدب والمجتمع. رغم ذلك، بقى النقد الأدبي متماسكًا كحقل يركز على دراسة النصوص عن طريق مفاهيم جمالية ولسانية مستقلة.

على الجانب الآخر، ظهر النقد الثقافي كحركة نقدية ترفض الاقتصار على دراسة النص الأدبي فقط، متأثرًا بالتيارات الفكرية لما بعد الحداثة ودراسات الخطاب، ويستند النقد الثقافي إلى فرضية أن الأدب ليس كيانًا منفصلًا، بل هو جزء من بنية ثقافية أوسع تتداخل فيها الأيديولوجيا، والسلطة، والسياسات الاجتماعية.

ويستعمل النقد الثقافي مجموعة متنوعة من الأدوات التحليلية لدراسة كيفية تعبير الأدب عن التوجهات الثقافية السائدة أو مقاومته لها، مع التركيز على قضايا مثل التمثيل الثقافي، والهوية، والعرق، والاستعمار. ومن ثمَ، لا يقتصر النقد الثقافي على النصوص الأدبية فقط، بل يمتد ليشمل السينما، والإعلام، والممارسات الاجتماعية، مما يجعله نقدًا أكثر انفتاحًا على الظواهر الثقافية المعاصرة.


صراع أم تطور؟

يطرح النقاد تساؤلات حول طبيعة العلاقة بين النقد الأدبي والنقد الثقافي: هل يُعد النقد الثقافي انفصالاً معرفياً عن النقد الأدبي، أم أنه يمثل استمرارًا طبيعيًا له؟

* وجهة النظر الصراعية: يعتقد بعض النقاد أن النقد الثقافي يشكل تهديدًا للنقد الأدبي، إذ يقلل من أهمية البعد الجمالي للنصوص لصالح تحليل الأنساق الثقافية والاجتماعية. وفقًا لهذا الرأي، فإنَّ النقد الثقافي يفرغ الأدب من قيمته الفنية، ليصبح مجرد وثيقة ثقافية تعكس قضايا السلطة والهيمنة.

* وجهة النظر التكاملية: يرى آخرون أن النقد الثقافي لا يستبعد النقد الأدبي، بل يعمل على توسيع نطاقه ليشمل الأبعاد الاجتماعية والثقافية. ومن ثمَّ، يصبح النقد الثقافي بمثابة إضافة للمناهج النقدية التي تهدف إلى فهم الأدب في سياقاته المتعددة، مما يعزز الدراسات النقدية بدلاً من استبدالها.

* التطور الطبيعي للنقد: يمكن عد النقد الثقافي تطورًا طبيعيًا للنقد الأدبي في زمن أصبحت فيه النصوص الأدبيّة جزءًا من شبكة ثقافية معقدة. ونرى انتقال النقد من الشكلانيّة إلى البنيويّة ثمّ إلى التفكيكية، ليمثل النقد الثقافي مرحلة جديدة في تطور الفكر النقدي، إذ يهدف إلى استكشاف العلاقة بين النصوص والسلطة والمعرفة.

لذا؛ لا يمكن عد الصراع بين النقد الأدبي والنقد الثقافي أمرًا حتميًا، بل يمكن رؤيتهما كاتجاهين متكاملين يسهمان معًا في توسيع آفاق فهمنا للأدب والثقافة. بينما يبقى النقد الأدبي أداة أساسية لتحليل النصوص، ويتيح النقد الثقافي فرصًا جديدة لاستكشاف العلاقة بين الأدب والمجتمع. لذا، يكمن مستقبل النقد في قدرة الباحثين على تحقيق توازن بين جماليات النص وسياقاته الثقافية، مما يضمن فهمًا أعمق وأكثر شمولًا للأدب كظاهرة فنية وثقافية في الوقت نفسه.