ماجد الملا*
هناك طرائق وأساليب متعددة بيد الملحن لصياغة نموذج لحني، تمثل خلاصة لمادة فكرية يضعها الملحن بأدوات خصبة، يكون الإحساس فيها مادته الأولية.
يقول الملحن الكبير عبد الوهاب أن الملحن كما يحمل فأساً قد تخرج له من الأرض ذهباً وقد تحمل طيناً. أقول إن هناك سطحية وعمقاً بالإبداع، لأن الأساس الأول للإبداع هو الاتحاد الذي لا ينفصم بين الإحساس والشكل.
الملحن الكبير محسن فرحان، هذا المتخيل الذي حاول إخراج الأغنية العراقية من ركودها بأناقته وصياغته المتقنة وخياله البراق، فجعل مياه التجديد تتدفق عذبة إلى ذلك النهر حاملاً معه الفن الصادق والأصيل، فكان من جيل العمالقة الذي أسهم في تشكيل وجداننا . هكذا يستطيع الفكر الموسيقي أن يتجدد دون الخروج عن الأطر التقليدية واجتراح مناخات إبداعية جديدة تمتاز بالعذوبة وتكامل البناء للحن، وأبرز ما يميزه هو الجمع بين هاتين الحالتين. وما يسترعي الانتباه قبل كل شيء في ألحانه هو الثراء والأصالة، بحيث تبدو رشيقة وأنيقة وليست متخمة بالجمل الزائدة، ما أعطى أعماله البقاء والخلود.
اخترت نموذجاً لإحدى أغاني الملحن فرحان فيها التعدد المقامي وتنوع الأجناس مع احتفاظها بالرشاقة والعذوبة وهي أغنية "شكول عليك" التي غناها المطرب قحطان العطار.
أنا أختلف مع الموسيقيين الذين يصنفون هذه الأغنية على أنها من مقام الحجاز، وهي من مقام النهاوند، ولا تمت بصلة إلى الحجاز سوى بمقدمتها الموسيقية، وفي نهاية المقدمة يسلم المطرب نهاوند، وتكون بداية غناء المقطع الأول هو نهاوند، وحتى الفاصل الموسيقي للإعادة هو نهاوند، أما استقراره فيكون على درجة الحجاز، وهذا أمر طبيعي، لأن النهاوند يأخذ حجازاً في الصعود والهبوط، لذلك أنا من وجهة نظري أن الأغنية هي من مقام النهاوند بدليل أن موال الأغنية يجب أن يكون مطابقاً مقامياً لبداية الأغنية، حتى يدخل المطرب بدون فروقات في المقام، ومن غير الممكن أن يكون الموال حجازاً ويدخل "نهاوند"، لذلك أترك عنوان مقامية الأغنية للجدل والنقاش وأحاول أن أخذ بتحليلي سير النغمات والنغمة المركزية والميزان وتنوع الإيقاع والمسارات اللحنية للأغنية وانسجامها.
التحليل:
بدأ الملحن بالمقدمة الموسيقية من مقام الحجاز (ري)، وفي نهاية المقدمة سلم المطرب مقام النهاوند (صول)، وقد بدأ بالدرجة الثالثة (سي بيمول) من المقام نفسه. وكان المقطع مع فواصله هو من النهاوند بعدها يستقر على الحجاز (ري) ثم ينتقل إلى مقام اللامي (لا) وينتقل إلى الرست (صول) ويستقر على حجاز (ري). ثم يبدأ بالمقطع الثاني بمقام العجم (صول) ثم البيات (لا) ثم الرست (صول) بعدها يستخدم مقام النوى اثر على درجة (لا) وهو حجاز كار. وفيه جنسا حجاز، لكنه يختلف في الاستقرار فقط.
وهو جمع متصل مسبوق بفاصل طنيني ثم ينتقل إلى مقام الصبا زمزم (لا) وينهي الأغنية بالاستقرار على الحجاز (ري) وتكون نهاية الأغنية والختام بإعادة المقطع الأول من مقام النهاوند (صول).
استخدم الملحن إيقاع الوحدة الكبيرة والمقسوم والميزان هو 4/4 وكانت الأبعاد الموسيقية متقاربة والمسار النغمي يسير باتجاه الهبوط والصعود بشكل جميل وليس فيه قفزات، أما المدى اللحني فهو أوكتاف واحد فقط يبدأ من الأولى وينتهي بالثامنة جواب ومع هذا المدى البسيط نلاحظ تعدد المقامات والأجناس، فهو استخدم ثماني مقامات رئيسة وفرعية وجاءت بانسيابية وتناسق جميل بحيث لن تشعر بالانتقالات المقامية لعذوبة وطريقة المرور من مقام إلى آخر وهذا ناتج عن فكر يفهم ما يريد ويعطي مثالاً لرؤية واضحة وهذا هو الشرط الأساس للإبداع الموسيقي الخصب وإن روح محسن فرحان هي التي تسيطر على عالمه اللحني وهو يحتضن أكبر تنوع من الأحاسيس التي يترجمها إلى ألحان مختلفة في التركيب والانسجام والشكل.
وأعرض عليكم نماذج لمطربين غنوا هذه الأغنية باختلاف نغم الموال: الفنان عبد فلك الذي استخدم موال نهاوند ودخل على الأغنية بشكل صحيح والآخر عدنان بريسم الذي استخدم موال الحجاز ودخل على الأغنية نهاوند، فوقع بمطب الفارق النغمي، فلا يمكن أن تتقبله الأذن لاختلاف المقامين بهذا يعزز تصوري أن أغنية (شكول عليك) هي من مقام النهاوند.
سألت موسيقاراً وملحناً كبيراً عن العنوان المقامي للأغنية فقال لي أنا لا اؤمن بالقوانين المقامية وتعدد الأجناس فهي تأتي من خيال الملحن وقد يكون فيها ابتكار وركوز خارج هذه النظم وأنا لا أهتم بهذا التنظيم بقدر اهتمامي بماذا يكون عملي في النهاية وكيف أصل إلى مشاعر وأحاسيس المستمعين.
ويبقى الملحن الكبير محسن فرحان خالداً بأعماله الغنائية المبدعة.
*ملحن عراقي