ضوضاء التاريخ أم ضوضاء الفلسفة في إعادة تشكيل العالم؟

آراء 2025/03/23
...

  نبيه البرجي


 "لسوف نرى الدببة المجنحة لا راقصات البولشوي في جادة الشانزليزيه". ثم "لعل القيصر يتوقع أن تنتظره كوكو شانيل بالورود ". لماذا هذا الحدس الهيستيري بأن فلاديمير بوتين سيزحف بدباباته إلى باريس وبرلين وروما فور أن تتوقف دوامة الدم في أوكرانيا؟

ريجيس دوبريه يلاحظ وجود خلل في الذاكرة الأوروبية. كانت هناك الإمبراطورية السوفياتية، بالجناحين الأوروبي والآسيوي، بديناميكية أيديولوجية عاصفة، ودون أن تخرج، قيد أنملة، عن الخطوط التي رسمها جوزف ستالين مع فرنكلين روزفلت وونستون تشرشل في مؤتمر يالطا (شباط / فبراير 1945 ). صحيح أن الشيوعية، بالصخب الفلسفي، راهنت على الحلول محل كل الديانات، وكل الايديولوجيات، بل وعلى ازالة التاريخ، لإعادة تشكيل العالم، وفقاً لرؤية كارل ماركس، لكن القياصرة الجدد لاحظوا أن ادارة العالم أكثر تعقيداً من أن يضطلع صاحب "رأس المال" بدور الأنبياء أو بدور الآلهة، الذين قادوا البشرية عبر الأزمنة.

 لا بطرس الأكبر، ولا ايفان الرهيب، ولا كاترين الكبرى، حاولوا الدخول، على صهوة الخيول إلى بلاط لويس الرابع عشر أو إلى بلاط فرديناند الثاني. ولكن، كما ذكرنا في مقالة سابقة، نابليون بونابرت حاول أن يرقص الفالس مع جوزفين على ثلوج موسكو، ليسقط على هذه الثلوج. ادولف هتلر حاول أن يعلق جوزف ستالين بشاربيه على أسوار الكرملين ويضرم النيران في جثته، ليسقط في هذه النيران.  أوروبا هي أوروبا. دائماً في اللاوعي قعقعة السيوف وقعقعة الدماء. هذا ما أثار ذهول المؤرخ بول كنيدي الذي لاحظ كيف أن دولة مثل ألمانيا التي أنتجت فلاسفة مثل ايمانويل كانط، أو فريديريك هيغل، أو آرثر شوبنهاور، يمكن أن تشق الطريق إلى التاريخ بالجثث. فاته أن ألمانيا التي أنتجت الفوهررهي، التي أنتجت أوتو فون بيسمارك، وفريديريك نيتشه، وريتشارد فاغنر الذي، بسمفونيته "غروب الآلهة"، بدا وكأنه يوقظ،على قرع الطبول، الآلهة الذين كانوا يقيمون في العقل الألماني. من هنا سؤال كنيدي " أهي ضوضاء التاريخ أم ضوضاء الفلسفة ؟". الآن، هل هي ضوضاء التاريخ أم ضوضاء الفلسفة في اعادة تشكيل العالم...؟".  دونالد ترامب يبدو كحالة ايديولوجية عابرة. هو من أصل ألماني، لكنه يزدري الألمان، بل ويزدري الأوروبيين، الذين يعتبرهم العالة الاستراتيجية على الإمبراطورية. الفرنسيون يتساءلون ما إذا كان أميركياً حقاً أم هو "قنبلة روسية" في البيت الأبيض. لم يظهر في أي من صوره بسروال الجينز، ولا بقبعة الكاوبوي. الديبلوماسية المخضرمة سوزان رايس تشكك في معرفته بكلمات النشيد الوطني الأميركي.

 شارل ديغول كان يقول "أنا فرنسا وفرنسا أنا". دونالد ترامب يقول "أنا أميركا وأميركا أنا" الفارق بين الاثنين أن الجنرال لم يكن يستفيق على أغنية اديث بياف "La vie en rose "، أي "الحياة الوردية"، وانما على نشيد الـ Marseillaise، والى جانب سريره القبعة العسكرية وعليها صليب اللورين. 

 الخوف الأوروبي من الطلاق بين ضفتي الأطلسي خوف استراتيجي أم خوف عاطفي؟ سؤال للمؤرخ الفرنسي جان ـ بيار فيليو. أوروبا ترى في ترامب قاطع الطرق الذي يريد أن يختطف ابنتها منها. أليست أميركا، الابنة الكبرى والوحيدة للقارة العجوز؟".

 فيليو يرى أن على القارة أن تخرج من جاذبية العقل، وجاذبية القلب. ثمة عالم مجنون وتعاد صياغته بأيدي المجانين. هنا ثقافة الأسواق، وثقافة الأرقام. بول غرومان، الحائز على نوبل في الاقتصاد، وصف وول ستريت، وحيث كرادلة المال، بـ"فاتيكان القرن". فيليو يدعو، بصوت عال، إلى "أوروبا المجنونة" التي لا تنتج الأزياء والعطورات والحلي الفاخرة فقط، ولا الأدمغة الهرمة الضائعة في كتب الفلسفة فقط. بل تلك التي تشق الطريق على الطريقة الأميركية، إلى ما بعد الزمن التكنولوجي، بدل "أن نبقى نسند رؤوسنا إلى جدران البيت الأبيض"، بعدما لا حظ أن خيال ترامب اقرب ما يكون إلى "خيال المستنقعات" (الخيال الآسن)، متمنياً عليه الاصغاء إلى سنفونية تشايفوسكي "بحيرة البجع" ليكون له قلب الكائن البشري لا قلب الديناصور...

سؤال المحافل السياسية الآن. مستقبل أوروبا في روسيا أم في الصين ما دام الإمبراطور قد "تركنا على مائدة القيصر" ؟ الكلام ليس فقط عن التفاعل السياسي أو التفاعل الاستراتيجي بين ضفتي الأطلسي، بل عن "التفاعل البيولوجي". من سنوات بعيدة دعا الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس إلى "الخروج من عباءة فرويد"، وبناء خيال أكثر ديناميكية للمواطن الأوروبي، لكي "تكون لنا أجنحة الصقور لا أجنحة الفراشات".