مسرحية {تختة}.. خمسون دقيقة تواجه خمسة آلاف عام

ثقافة 2025/03/23
...

  د. أمير هشام الحداد


قدم المخرج المؤلف مهند ناهض الخياط ضمن أيام مهرجان المسرح البابلي السادس لنقابة الفنانين العراقيين فرع بابل عرض "تختة" وهو طبخة مسرحية دسمة تتشاطر فيها ويعتلي خط المستوى الفكري الفلسفي الشخصاني بأيديولوجية كمخرج واعٍ ومدرك لكل ما يقوله بفطنة وذكاء وباعٍ طويل حافل بالإنجازات والأعمال، فهي خلاصة لجهد كبير ووقت ثمين يعيش فيه بين جدران خشبة المسرح المغلقة – المغلقة بجغرافية/ والمفتوحة برسائل فكرية مبثوثة تحمل الكثير من الهواجس والأحلام والرؤى.

مبتدأ من تلك الواقعية السحرية بكلمة المخرج "بفولدر" العرض ويافطة عنوان المسرحية بعتبة أولى لصراع السنين التي قرأها بخمسة آلاف عام، ودونها "بـخمسين عاماً" في مسيرة حافة بالإنجازات، حيث مهد فيها للأحلام والفنتازيا والتخيلات من خلال أول حوارات المسرحية "البحث عن الخلود" و "الرحلة الى السماء" إلى ختام المسرحية بالميديولوجيا ووسائل الاتصال الالكتروني "الماسنجر – التلغرام – والانستا" باعتبارهما عالما وهميا مخادعا يبنى على الفنتازيا والوهم، وكذلك كذبة كبيرة في عملية ايصال الرسائل المقطوعة من دون روح ولا قيم ولا مبادئ، فهو يجمع بين اضداد متباعدة وثنائيات منشطرة، ما بين "الذات والآخر"، "الشكل والمضمون"، "الروح والجسد"، "التاريخ والحاضر"، "الكلمة والفعل"، "الورقة والآلة"، "الكهل والشباب"، "الاحلام والواقع"، حيث بنى النص على اسئلة واستفسارات سقراطية "كيف – كيف – كيف" بإشارة إلى أن من هو كثير السؤال وهو "العالم – الفاهم – الناقد – المثقف" باعتبار "التختة – الخشبة" هي التي تقدم الاسئلة الرسائل وعلى المتلقي الاجابة. وهل من مجيب لتلك الأفكار والطروحات "اليمينية واليسارية" متجسدة ميدانيا بمقعدين تتوسطهما مصطبة على يد مصمم الديكور أحمد فيصل، وعاصفة العواطف "الجنوبية – الجنوبية، الشرقية، الغربية" أما الشمالية فقد يضعها في موضع الاستفهام؟ معبراً عن الحقد والألم والموت الجنوبي، الواقعي المليء بالشؤم مقابل تفاؤل وأمل ورياح شمالية غير معروفة المضمون، لكن واضح الشكل، في اشارة رمزية إلى "العجلات" الاحتلال الذي دمر البلاد ومن يدعون الوطنية التقطوا صورا مع الأعداء، وصفقوا لهم وأصبحوا أصدقاء، حيث رسم المخرج سينوغرافيا العرض (بميزانسين) ذو نسق عالٍ في "الحركة والإضاءة"، والفعل المسرحي من خلال شطر الخشبة والتختة إلى "يمين ويسار"، "الرجل الكبير- والشاب الصغير"، والمحرك الأساس هي التختة "تختة الانتظار"،"مصطبة المغيسل"، تختة الحمام، تختة قطع الفواكه، تختة الرسائل، تختة خشبة المسرح". المنظور الفعلي مرتبط بهمزة الوصل والمنتظر الغائب وهو "ساعي البريد" ناقل الرسائل ومضامينها المنقذ – المخلص، حيث أدى المبدع محمد حمودي، أداء كوميديا كسر أفق التوقع في عملية التلقي، إشارة منه إلى تفاهة الحياة وسخف واقعيتها المشؤومة بصورة رفع الشبابيك والأبواب معبرا عن خلو السلوك المجتمعي عن تلك القيم والمبادئ والعادات والتقاليد واستبدالها بثقافة بديلة تبحث عنها يجهل وسذاجة من خلال أبواب انتخابات لا فائدة منها، "إن حضرت غبت وإن غبت ذوبت" في واقع مليء بالفساد والرشوة والموت. 

خمسون دقيقة بفعل واقعي سحري قدمه لنا المخرج من خلال شخصية كهلة متعبة تنتظر، بأداء أكثر من رائع وفعل منضبط ونسق عالي المستوى، وهذا ليس بالصعب أو الجديد على حسنين الملا "الكبير" مقابل شخصية ساخرة مرنة الحركة سريعة التحول "ببدي تكنيك" عالي المستوى، ومنسق يتسم مع الشاب أصيل الذي يعرف أدواته وكيف يحركها ويوظفها ومتى يصمت ويتكلم؟ وبتصميم بسيط وواقعي لأزياء الفنان علي كماش، ووظفت اللغة المحلية "اقنع بيها نفسك"، "وصلنا لعد وين رحنا" لاستثارة مشاعر وعاطفة المتلقي وبعفوية أداء وصولاً إلى قلبه مباشرة، حيث مزج بين كيميائية الأداء وخاصة عند الشاب، وفيزيائية المنظور من خلال صراعات الذات عبر مشاهد ميلودراما تجسد عن عواطف وأحاسيس داخلية مشجاة عالية وسردية أدائية شعرية. 

ووظف المبدع سراج منير الإضاءة بفيزيائية المنظر وخاصة بتوجيه "الفلو" على شكل دوائر وبقع لونية معبر عن الحياة والأمل والأحلام والرؤى، والانتظار ما بين "الأصفر والأبيض والبنفسجي" بمشهد جمالي فني رائع بتصغير وتكبير تلك الدوائر لتشمل الجميع، ومصاحبة لموسيقى مختارة بشكل دقيق وبعناية تواكب الحدث المسرحي، وحرفية الفنان إبراهيم عبد الله. 

وأخيرا وليس أخرا، دائرتنا حب وطننا وخشبتنا حب مسرحنا ورسائلنا يجب أن تصل إلى الآخر، ولو كان انتظار الابن حلما وسط غابة التكنولوجيا والتطور، إلا أن أيادينا مرفوعة وتلوح بالبياض والنقاء والصفاء داخل البقع اللونية المحتلة والمميتة، لا ينفع المال والبنون إلا من جاء بقلب سليم وأرسى له قواعد وقيم ومبادئ يتربى عليها بوجود مسرح نابض بالجمال.