عمارة المنفى في {ترنيمة الغائب}

د. عادل الثامري
يتجلى البعد المعماري للمنفى في قصيدة "ترنيمة الغائب" للشاعر عبد الكريم گاصد عبر مستويين متداخلين: المستوى اللغوي والمستوى الأدائي. على المستوى اللغوي، يعمل النص على تفكيك بنية اللغة ذاتها عن طريق تقويض الدلالة المستقرة الذي يظهر في التحول المستمر للدوال، فالحارس الليلي يصبح بذرة، والبذرة تنتقل من الجنة إلى الجحيم. هذا الانزلاق الدلالي يجسد حالة عدم الاستقرار التي تميز تجربة المنفى. كما يتجلى تشظي الصوت الشعري في تعدد الأصوات (الحجر، الطائر، النجوم) الذي لا يمثل مجرد تعدد للمتكلمين، بل يكشف عن تصدع في بنية الذات المتكلمة نفسها. يتحول النص على المستوى الأدائي إلى تجسيد لحالة المنفى عبر الفجوات النصيّة التي تعمل على تجسيد حالة الانقطاع والتشظي. كما يتحول تكرار بعض العبارات مثل "لا تغلقها" إلى طقس أدائي يجسد حالة القلق الوجودي. هذه العناصر الأدائية لا تقتصر على كونها تقنيات شكلية بل تتحول إلى عناصر بنائية في عمارة النص.
يؤسس النص هندسة معمارية معقدة للمنفى تتجلى في فضاءات العبور المتعددة. فالطرق المجهولة تمثل مساحات انتقال لا تؤدي إلى وجهة محددة، والبوابة تتحول من عتبة مكانية إلى حالة وجودية، والنافذة الإلهية تشكل برزخاً بين العوالم. هذه الفضاءات لا تعمل كخلفية للحدث الشعري، بل تشكل جوهر التجربة الشعرية نفسها. يتم تقويض المنظومة الزمنية في النص عن طريق انهيار التسلسل الزمني التقليدي وتداخل الأزمنة، كما يظهر في صورة الحارس الليلي في النهارات. هذا التداخل يؤسس لزمن شعري خاص يتجاوز التقسيمات المعتادة ويخلق إيقاعاً زمنياً يتناسب مع حالة المنفى.
يعمل النص على تفكيك الثنائيات المألوفة المرتبطة بالمنفى. فثنائية الوطن/ المنفى يتم تقويضها عبر معادلة "الوطن والمنفى كلاهما بعيدان"، وتتداخل ثنائية الحضور/ الغياب في صورة النهر اليابس والصياد، كما تنهار الحدود بين المقدس والمدنس في صورة البذرة التي تنتقل من الجنة إلى الجحيم. ويتجاوز النص مستوى التمثيل إلى الأداء عبر تفكيك بنية الجملة التقليدية واستخدام التقطيع والفجوات وتوظيف الصمت والبياض. هذه العناصر لا تعمل كتقنيات شكليّة فحسب بل تتحول إلى مكونات أساسية في البناء المعماري للنص.
تكمن أهمية القصيدة في قدرتها على تحويل المنفى من موضوع للكتابة إلى أداء لغوي وبنيوي. عبر هذا الأداء المركب، يتجاوز النص حدود التمثيل التقليدي لتجربة المنفى ليقدم تجربة شعرية تجسد حالة التشرد والاغتراب في بنيتها اللغوية والأدائية ذاتها. وبهذا يحقق النص تحولاً جوهرياً في معالجة موضوع المنفى، متجاوزاً التناول الوصفي إلى مستوى البناء المعماري المتكامل.
تأطير
تبدأ "ترنيمة الغائب" بصوت المتكلم الذي يقدم نفسه بصورتين متناقضتين: "بذرة" و"حارس ليلي". هذا التناقض في تحديد الهوية يؤسس لحالة التشظي التي تسم تجربة المنفى في القصيدة. فالبذرة تحمل إمكانية النمو والتجذر، لكنها تُنثر في مفارقة صادمة من "الجنة" لتورق في "الجحيم". أما صورة "الحارس الليلي" فتجسد المفارقة الثانية، إذ يحرس في "نهارات لا تحصى"، ليصبح الزمن نفسه مشوشاً ومختلاً.
يتعمق هذا التشظي عبر تقنية الحوار الداخلي بين أصوات متعددة. فالصوت يتنقل بين: الذات المتكلمة – الحجر – الطائر – النجوم. هذا التعدد في الأصوات يعكس حالة الانشطار التي يعيشها المنفي، فهو يتماهى مع الجمادات والكائنات بحثاً عن هوية جديدة أو انتماء بديل.
تلعب الصور المكانية دوراً محورياً في بناء دلالات النص. فالقصيدة تؤسس ثلاثة فضاءات رئيسية: فضاء الطريق: "كم قطعنا طرقاً نجهلها!" وفضاء العتبة: "ننتظر طويلاً أمام بوابة" وفضاء النهر الجاف: "أنا الجالس أصطاد على ضفة نهر يابس". تشترك هذه الفضاءات في كونها أماكن عبور وانتظار، غير مكتملة أو فاقدة لوظيفتها الأساسية. فالطريق مجهول، والبوابة لا تُفتح، والنهر جاف. وهكذا يصبح المنفى فضاءً معلقاً بين الأماكن، لا ينتمي إلى أي منها. وتتوج القصيدة هذا البناء بمعادلة تلخص جوهر تجربة المنفى: "الوطن والمنفى كلاهما بعيدان"
هذه المعادلة تكشف عن جوهر المأساة: استحالة العودة إلى الوطن واستحالة الاستقرار في المنفى. وهكذا يصبح المنفي معلقاً في برزخ، في حالة من التيه المستمر الذي تعبر عنه خاتمة القصيدة: "نذرع الأرض طولاً وعرضاً فمتى نلتقيك؟"
يطرح المقطع الأول سؤالاً جوهرياً حول معنى المنفى: "أكلٌّ هذا العبور/ وما مرَّ من أبحرٍ وصحارى/تسميه منفىً؟".
يكشف هذا السؤال عن عدم كفاية كلمة "منفى" لاحتواء التجربة المعقدة. فالشاعر يستخدم الاستفهام الاستنكاري ليشير إلى أن المنفى ليس مجرد رحلة عبور أو انتقال مكاني، بل هو تجربة أعمق وأشمل من أن يختزلها مصطلح واحد.
ثم ينتقل النص إلى مشهد حواري يجسد حالة التشتت: "أوه.. يقول الحجر/أوه.. يقول الطائر/ما أبعدَهم!/النجوم أقربُ إليّ...". يعمل هذا المقطع على مستويين:
1. تشظي الذات: يتوزع صوت الشاعر بين كائنات متباينة (الحجر/الطائر)، ما يعكس فقدان المنفي لمركزه وثبات هويته.
2. انقلاب المسافات: تصبح النجوم البعيدة أقرب من البشر، وهي مفارقة تعبر عن عمق الاغتراب.
وفي استخدام الشاعر للثنائيات الدينية (الجنة/الجحيم) يظهر تحول آخر مهم. فالبذرة التي تُنثر في الجنة تورق في الجحيم، وهذه المفارقة تكسر التصور التقليدي للمكان المقدس والمكان المدنس، لتقدم رؤية جديدة حيث يمكن للحياة أن تنبت حتى في أقسى الأماكن وأبعدها.
يجسد المقطع "كائناتٍ فضائيّةً غريبةً / ننتظر طويلاً أمام بوابةٍ / لا ندخلها" تجربة المنفى في صورة بالغة التعقيد. يبدأ الشاعر بتحويل المنفيين إلى "كائنات فضائية غريبة"، وهو وصف يكشف عن حالة اغتراب تتجاوز مجرد البعد المكاني. فاختيار كلمة "فضائية" يوحي بانقطاع جذري حتى عن الأرض نفسها، كما أن وصفها بـ "غريبة" يؤكد ازدواجية الاغتراب: فهم غرباء عن المكان وعن ذواتهم في آن واحد.
يتعمق هذا الشعور بالاغتراب عبر صورة الانتظار الطويل أمام البوابة التي لا يمكن دخولها. تتحول البوابة هنا إلى رمز للحد الفاصل بين عالمين، لكنها حد لا يمكن تجاوزه. فالمنفيون عالقون في حالة انتظار أبدي، لا يستطيعون العودة إلى ما كان، ولا المضي قدماً نحو ما سيكون. وهكذا يتحول المنفى نفسه إلى منطقة وسطى، فضاء معلق بين الأماكن، لا يمكن السكن فيه ولا الخروج منه.
تكتسب هذه الصورة عمقاً إضافياً عندما نربطها بباقي القصيدة. فهي تتناغم مع صورة "النهر اليابس" الذي يصطاد فيه الشاعر، ومع حالة العبور الدائم عبر "طرق بلا شارات ولا أعلام". كلها صور تؤكد استحالة الاستقرار في المنفى، وتحوله إلى حالة وجودية من التيه المستمر والانتظار الذي لا ينتهي. وهكذا يتجاوز المنفى كونه مجرد مكان ليصبح حالة من التعليق الدائم بين الأمكنة والأزمنة، حالة لا تنتمي إلى أي مكان ولا تستقر في أي زمان.
الاختلال المكاني
يتعمّق هذا التشكيل المكاني عبر صورة النافذة الإلهية: "سأقفزُ إليها من نافذتك الآن/ فلا تغلقْها/ لا تغلقها أيها الربّ". تمثل النافذة هنا برزخاً بين عالمين، نقطة عبور محتملة لكنها مهددة دائماً بالإغلاق. يكشف تكرار التوسل "لا تغلقها" عن عمق القلق الوجودي للمنفي، وعن علاقة متوترة مع القدر نفسه. هذا القلق يتجسد أيضاً في صورة الطرق المجهولة: "كم قطعنا طرقاً نجهلها/ طرقاً بلا شاراتٍ ولا أعلام". فغياب العلامات والإشارات يحول الحركة في المكان إلى ضرب من التيه المستمر، ويشير استخدام صيغة الجمع "قطعنا" إلى أن تجربة المنفى تتجاوز الفردية لتصبح حالة جماعية.
وتبلغ المفارقة المكانية ذروتها في صورة النهر اليابس: "أنا الجالس أصطادُ على ضفّة نهرٍ يابس". يجسد هذا المشهد التناقض الجوهري في تجربة المنفى: فالنهر، رمز الحياة والحركة، يتحول إلى فضاء جاف وميت وفقد وظيفته الاساسية، والصيد فيه يصبح نشاطاً عبثياً يؤكد استحالة الحياة الطبيعية في المنفى. إن الجلوس على ضفة هذا النهر الميت يجسد حالة الانتظار العقيم التي يعيشها المنفي.
تختتم القصيدة بناءها المكاني بمعادلة صادمة تساوي بين الوطن والمنفى في البعد والاستحالة: "الوطن والمنفى/ كلاهما بعيدان"، لتنتهي بمشهد البحث اللانهائي: "نذرعُ الارض طولاً وعرضاً/ فمتى نلتقيك؟". هذه النهاية تحول المشكلة من مجرد البعد المكاني إلى قضية وجودية أعمق، حيث يصبح السؤال عن إمكانية اللقاء سؤالاً عن معنى الوجود نفسه في حالة المنفى.
الاختلال الزمني
تتجلى المفارقة الزمنية الأساسية في القصيدة في ثنائية "الحارس الليلي" و"النهارات" التي تتجاوز مجرد التناقض الظاهري إلى تأسيس فضاء شعري يتخطى الزمن الخطي. فالحارس الليلي في النهارات يؤسس لحالة وجودية تتجاوز الثنائيات المألوفة (ليل/نهار) لتخلق زمناً شعرياً خاصاً، يتميز بتداخل الأزمنة وانصهارها في بوتقة واحدة.
يتجاوز فعل "عدّ النجوم" في النص كونه مجرد مهمة لا نهائية، إذ يؤسس لعلاقة خاصة مع الزمن. يصبح الفعل المتكرر طقساً وجودياً يحول اللامتناهي (النجوم) إلى محاولة للقبض على المطلق، خالقاً توتراً دراماتيكياً بين المحدود (فعل العد) واللامحدود (النجوم). هذا التوتر يخلق بعداً زمنياً جديداً يتجاوز التصور التقليدي للزمن الخطي.
في مقطع البوابة، "ننتظر طويلاً أمام بوابةٍ / لا ندخلها/ وإن دخلناها فقد لا نخرج منها أبداً" يتجاوز النص مجرد فكرة التعليق الزمني إلى تأسيس جدلية بين الإمكان واللا إمكان. تتحول البوابة إلى عتبة وجودية تتجاوز البعد المكاني، خالقةً فضاءً احتمالياً يتضمن كل الاحتمالات في آن واحد. هذا التشكيل يؤسس لزمن شعري خاص يجمع بين الحضور والغياب، بين الإمكانية واستحالتها.
تتشكل البنية الزمنية المركبة في القصيدة من تداخل مستويات زمنية متعددة، تجمع بين الزمن الدائري المتمثل في تكرار فعل العد، والزمن الخطي المتجسد في احتمالية الدخول، والزمن المطلق الذي يتجلى في احتمال عدم الخروج. هذا التداخل يخلق نسيجاً زمنياً معقداً يتجاوز التصنيفات التقليدية للزمن.
يؤسس مشهد المقبرة في القصيدة لحظة فارقة في تشكيل الزمن الشعري. فالتقابل بين "هم" و"نحن" يتجاوز مجرد التضاد المكاني ليخلق انقساماً في النسيج الزمني ذاته. تتحدد حركة "هم" بالاكتمال والنهائية (الذهاب إلى المقبرة)، بينما تبقى حركة "نحن" معلقة في فضاء الاحتمال والتساؤل. هذا التعليق لا يعني مجرد عدم معرفة الوجهة، بل يؤسس لحالة وجودية تتجاوز الحدود الزمنية المتعارف عليها. ويكتسب السؤال "إلى أين؟" في هذا السياق أبعاداً تتخطى الدلالة المباشرة. إنه سؤال يؤسس لمستقبل متعدد الاحتمالات، ولكنه في الوقت نفسه يشير إلى حاضر معلق. هذا التعليق يخلق فضاءً زمنياً خاصاً يتميز بالتداخل بين ما يمكن أن يكون وما لا يمكن تصوره، بين الممكن والمستحيل.
تتعمق المفارقة الزمنية في فعل "ذرع الأرض". فهذا الفعل المستمر في الحاضر يتقاطع مع سؤال اللقاء المستقبلي "متى نلتقيك؟"، خالقاً توتراً بين الحركة المستمرة والغاية غير المحددة. الذرع هنا يتحول إلى طقس وجودي يتجاوز البعد المكاني ليصبح محاولة لقياس الزمن نفسه، أو بالأحرى، محاولة لخلق زمن بديل. أما صورة النجوم وقربها المتناقض، فتؤسس لانقلاب في المنظومة الزمنية-المكانية. فالنجوم التي تمثل تقليدياً البعد المطلق والزمن الكوني تصبح قريبة، مما يخلق انزياحاً في التصور المعتاد للزمن والمسافة. هذا القرب المتناقض يؤسس لعلاقة جديدة مع الزمن، علاقة تتجاوز القياسات المادية لتؤسس لزمن شعري خاص.
يمكن فهم البنية الزمنية في القصيدة عبر ثلاثة مستويات متداخلة: زمن الحركة المستمرة (ذرع الأرض)، وزمن الانتظار (السؤال عن اللقاء)، وزمن كوني منقلب (قرب النجوم). هذه المستويات لا تتوازى ببساطة، بل تتداخل وتتفاعل لتخلق زمناً شعرياً معقداً يتجاوز التصنيفات البسيطة. تؤسس القصيدة في النهاية لزمنية خاصة تجمع بين التناقضات: بين الحركة والسكون، بين القرب والبعد، بين الاكتمال والتعليق. هذه الزمنية لا تنتمي إلى النظام الخطي التقليدي، ولا تخضع للتقسيمات المعتادة للماضي والحاضر والمستقبل، بل تخلق فضاءها الخاص الذي يستوعب كل هذه التناقضات في آن واحد.
تناولت قصيدة "ترنيمة الغائب" تجربة المنفى عبر بنية معمارية متكاملة. فقد نجح النص في تجاوز المعالجة المعتادة للموضوع عبر تأسيس بناء شعري متعدد المستويات يجمع بين التفكيك اللغوي والأداء البنيوي والتشكيل الزمكاني. وتكمن أهمية هذا البناء في قدرته على تحويل المنفى من موضوع خارجي إلى تجربة داخلية تتجسد في بنية القصيدة نفسها؛ يصبح التشظي والتعليق والاغتراب عناصر بنائية في عمارة النص. وبهذا يقدم گاصد رؤية جديدة للمنفى تتجاوز ثنائية الوطن/المنفى المعتادة لتؤسس فضاءً شعرياً ثالثاً يستوعب تناقضات التجربة ويكشف عن أبعادها الوجودية العميقة.