سعد صاحب
العلاقة بين الشعر والفن التشكيلي علاقة قديمة، فاللوحة شعر صامت، والقصيدة لوحة ناطقة، بحسب الفلاسفة، وحينما ننبهر بشيء ما نسكت، فالصمت هنا لا يعني عدم وجود الكلام، بل العكس من ذلك، فإننا نريد أن نختار أحلى المفردات للتعبير عن مشهد ساحر، أثار احساسنا الداخلي الى حد الانفعال، وربما تنضب أحاديثنا ألا ثرثرة اللوحة، المعلقة فوق جدار أنيق، دائما لديها ما يبهر حواسنا من الجمال والأسرار والغموض، وأحيانا يفصح الرسم أكثر من الكلمات: "التراب على العسل/ غلاف لكتاب لن يفتح أبدا".
تنافذ الاجناس الأدبية، أتاح للشاعر أن يأخذ من كل الفنون المجاورة، ونحن عندما نتعلم من تقانات الرسم الحديثة، بالمقابل يستفيد الرسامون من الأفكار الشعرية الجديدة، والمبدع يبحث عن التجريب باستمرار، وهذه التجربة بين الشاعر رعد كريم عزيز والفنان التشكيلي إياد الزبيدي، تستحق الاحتفاء والإشادة والدراسة، لأنها جمعت بين فنين لا يمكن التفضيل بينهما أبدا، وكلاهما واحد يكمل الآخر في مسيرة حب طويلة، ولا فرق بين الاثنين في الاشتغال الابداعي، فالرسام يستخدم القماش والخشب والفكرة والألوان والدوائر والخطوط والمنحنيات والأشكال، وعدة الشاعر اللغة والصورة الشعرية والرؤى والرموز والاستعارة والخيال والموسيقى والايقاع: "حين نقلوا النسر من حديقة لأخرى/ توهم انه ذاهب للجبال".
القضية الابداعية لم تكن سهلة مطلقا كما يتصورها البعض، فهي أشبه ما تكون بعملية حسابية معقدة، تجعل المغامر يسلك أكثر من طريق للوصول الى نتائج مثمرة، لكونها متشابكة مثل غابة كثيفة، لا تزبرها الأصابع وحدها، دون علم وتصميم وتخطيط وارادة: "العسل على التراب دمعة مطفأة".
والعمل الابداعي في جميع الفنون، يحتاج الى الدقة والهندسة والإيضاح والقوة والبساطة وعدم المبالغة والاتقان، وهو مخاض من نوع خاص، يشبه اوجاع الطلق عند المرأة في أول ولادة لها، أو هو معركة شرسة بين الحروف والبياض، ينزف الشاعر الحقيقي في سوحها الكثير من الدماء، وكلما يسبر غور الجراح المحارب، يعود للميدان ثانية، دون أن ينتصر ولو لمرة واحدة، فالحرب قائمة ولا تنتهي طالما هناك مشروع شعري ناضج، وطالما هناك سيوف مشرعة ومحبرة من نزيف القلب المدمى، وأوراق بانتظار السواد: "هل تستطيع الحكمة/ أن تحمي المتوحد من مويجات النهر/ التي تضمحل وتولد من جديد". وكما نعلم جميعا: ليست الريشة تقوم برسم اللوحة، بل الفنان الذي يحملها، بحسب عبارة قرأتها في فيلم سينمائي، وليست اليد التي تكتب القصيدة، وإنما العقل المفكر الذي يوجهها نحو الكتابة، ويغريها بتخطي المعوقات والعثرات والعراقيل وتحقيق الانجاز: "ليست هناك اشجار عنبر مورقة/ بل هناك ربيع غائب". ورغم الصداقة الحميمة بين الشعر والرسم، يبقى لكل فن خصوصياته المختلفة في بعض الجوانب، فالرسم يقتصر على انطباعات بصرية مفردة، وبذلك يحقق وحدة واندماجا يستحيل تحقيقهما في الأدب، في حين أن الأدب هو الوحيد القادر، على تقديم متتابعات حكائية تمتد عبر الزمان والمكان، على حد قول الناقد ليسنغ: "الوحدة أخت الملائكة/ رغم أنها قاسية جدا". عنوان المجموعة المشتركة (كائنات الفحم) يعتبر عنوانا جامعا للفن الشعري والتشكيلي معا، ولا ريب أن الكثير من الصور المدهشة الموجودة في القصائد، تشبه عمل الرسام الذي يرسم صورا تثير فينا الاعجاب، وتمنحنا المتعة واللذة والبهجة والفكر العميق بمحتواها، وما يحسب لها أنها كانت مقتصدة في كل شيء، بلا سرد فائض ولا تفاصيل زائدة. "الرسائل التي لا جواب لها دائما مريبة". هذه المخلوقات الهشة الضعيفة، الباسلة في صبرها وتحملها ومعاناتها وتفردها في مقاومة الألم، عانت كثيراً من البؤس والتشتت والقهر والغياب والوحدة، وعاشت أجواء الحب والحرب في زمن واحد، والحب بناره المستعرة حول الارواح إلى رماد، تذروه الرياح في الصحارى البعيدة، والحرب كالحب دائما تجد لها طريقا سالكا إلى الناس، كما يشير بريخت، وما طريقها سوى الفناء والهلاك والدمار والضحايا والخراب: "بعيداً عن القناعة أو عدمها/ كنت وفي كل حرب قادمة/ أحزم أمتعتي مقدما الشكر للحرب الماضية/ لأنني بقيت حيا". لعب الشاعر في قصيدة "الأيام" في المجموعة لعبة ذكية باستخدامه الزمن العاطل كأداة لتوصيل الدلالة التي يبتغيها، وإدانة الواقع السياسي الذي عاشه العراقيون سابقا. في فترة الخوف والرعب والموت والملل والفواجع، وهذا الحذر الذي يتخلل القصيدة كان موجودا منذ البيت الأول حتى الأخير، ممهدا له بمفردات تدل على الفجيعة، وقد هيأنا مسبقا للقبول بهذه النهاية الحزينة. "اتكئ على جدار الأحد/ خوفاً من السبت المجهول/ وأحايد الاثنين متهما الأربعاء/ بفاجعة الثلاثاء/ خارجا يوم الجمعة/ متوجا برماد الخميس المشتعل". التخطيطات الغريبة محفزة لخيال الشاعر، والقصائد المريبة مثيرة لخيال الفنان، وهكذا تكون الفائدة تبادلية ما بينهما، محكومة بالرؤى الجمالية والانثيالات الشعرية والإحساس الجديد بالأشياء، والرؤية الثاقبة في مشاهدة التكوينات في الجذوع النخرة، والعروق النافرة في سقف متآكل، وربما مقطع شعري صغير يقود إلى رسومات عديدة. وهذا التعالق الوجداني بين الأنواع الأدبية، من شعر ورواية وقصة ومسرح وفن تشكيلي وسينما، موجود منذ سالف الأزمنة وكل نوع يجد ما يصبو اليه في النوع الثاني، وجميعها يسبحون في مدار الحب والألق والعطاء والتماثل. وهذه الحالة ليست جديدة في عالم الابداع، فهناك العديد من الشعراء والروائيين استلهموا الكتابة من الرسوم، الموجودة على جدران الكهوف، أو في المعارض التي تقام ما بين حين وحين.
يقول الروائي ارنست همنغواي "كنت أتعلم شيئا ما من لوحات سيزان، يجعل كتابتي أكثر صدقا ووضوحاً ورشاقة وأبعادا، أي أنه أراد أن يحاكي في كتاباته سحر اللوحات، أو يقترب من مضامينها الخفية المخبّأة، بين طيات الورق والمتعرّجات والبقع المعتمة والعلامات والظلال.