عماد الدين نسيمي.. حكمة المعنى الروحي

ثقافة 2025/03/25
...

  مرتضى الجصاني 


عماد الدين نسيمي، الشاعر الحروفي الشهير، الذي يعد أحد أشهر الشعراء في التاريخ الأدبي العربي والفارسي والأذري، والذي ترك بصمة واضحة في الأدب الصوفي من خلال توظيفه العميق للغة الحروفية، التي تجمع بين جمال الشعر وعمق الفلسفة الصوفية. وُلد نسيمي في أواخر القرن الرابع عشر، في أذربيجان، في وقت كان فيه الفكر الصوفي في أوجه، وكان الفن الأدبي يسعى إلى تجاوز حدود الكلمات والوصول إلى تجارب روحية عميقة. إذ قرأ أعمال كبار شعراء الصوفية مثل أحمد يسوي (ت.1166) وجلال الدين الرومي ويونس إمره (1240-1321) وتأثر بهم بعمق، ولا سيما بكتابات الحسين بن منصور الحلاج شهيد المتصوفة الأول. في قصائده، لم يكن نسيمي مجرد شاعر، بل استطاع أن يدمج بين المكونات اللغوية والفنية ليخلق أعمالًا فريدة تحمل في طياتها أبعادًا متعددة من المعنى الروحي والفلسفي.

 ولدت روح نسيمي في هذا السياق الفكري، حيث كان يسعى إلى إيجاد توازن بين المعرفة العقلية والمعرفة الروحية. في هذا الإطار، تأثر نسيمي بالعديد من الرموز الصوفية التي سبقت عصره.

كان نسيمي من أتباع فضل الله استرابادي، مؤسس الفرقة الحروفيَّة في عصره. فضل الله استرابادي الذي كان صاحب مذهب فكري صوفي يركز على وحدة الوجود وفلسفة الحروف وهو خليط من فلسفات وديانات متعددة، وهذا التأثير كان واضحًا في شعر نسيمي. حيث جعل نسيمي من الحروف رمزًا للحقائق الكونيَّة التي تتعدى الجوانب الظاهرة للأشياء، وهو ما يتناسب تمامًا مع فلسفة فضل الله التي ترى أن الوجود كله، بما في ذلك الحروف، هو تجلٍّ لله في صورته المتعددة.

تعد تجربة نسيمي الحروفيَّة أحد أبرز ملامح فلسفته الشعريَّة. كان نسيمي يرى أنّ الحروف ليست مجرد رموز صوتيَّة تحمل معانٍ لغويَّة فحسب، بل هي كيانات حيَّة تحمل جوهر الحقيقة الإلهيَّة. لذلك، أصبحت الحروف في شعره أدوات لتحقيق الاتصال مع الذات الإلهيَّة ومع الكون. الحروف في نصوصه كانت تمثل أبعادًا فلسفية وروحية؛ فكل حرف يحمل في طياته قوة إشعاعية قادرة على فتح أبواب الحكمة والمعرفة، وفقًا للتقاليد الصوفية التي ترى أن العالم كله في تناغم وتناسق يعتمد على التواصل الروحي بين الإنسان والعالم العلوي.

في شعره، لا يقتصر نسيمي على استخدام الحروف فقط في سياق التعبير اللغوي، بل يمتد بها إلى كونها مرجعيَّة فنيَّة أيضًا. فالحروف في أعماله عناصر تشكيليَّة يمكن أن تخلق صورًا فنية تترابط مع النصوص، في ذلك الوقت، كانت الحروف في شعر نسيمي تتشكل كاللوحات، معبّرة عن الحقائق الكونية التي ترفض الفهم السطحي للعالم المادي.

غير أنّ الحروفيَّة في أعمال نسيمي هي جزءٌ من رؤية فلسفية عميقة، حيث كانت الحروف تمثل الأبعاد العرفانيَّة. بالنسبة له، كان الحرف أكثر من كونه رمزًا صوتيًا، ذلك لأنه يشكل وسيلة للتواصل مع الله. إذ كان نسيمي يعتقد أن الوجود كله، من أسمائه الحسنى إلى مخلوقاته، يتناغم مع الحروف التي تخرج من فم الإنسان أو قلم الشاعر. الحروف التي يستخدمها، على الرغم من كونها مكتوبة أو منطوقة، فإنّها تحمل في طياتها عالمًا كاملًا من الحقائق والمشاعر التي يتعذر على العقل إدراكها بالكامل.

عند النظر إلى بعض قصائده، نجد أن الكثير منها يكتشف العلاقة العميقة بين الإنسان والوجود الكوني، وكيف أن الكلمات والحروف تكشف عن الحقائق التي لا يدركها الإنسان العادي إلا بتأمل عميق. في قصيدته الشهيرة "أنا الحق"، التي أعلن فيها عن وحدة الوجود، يرى الشاعر نفسه في مرآة الكون والحروف التي يستخدمها لتعبير عن هذا الشعور هي تعبير عن التجربة الروحيَّة التي تتجاوز الحروف نفسها إلى ما وراءها من أسرار.

ومن هنا كان عماد الدين نسيمي، من خلال استخدامه الفلسفة الحروفيَّة، له تأثير عميق في الأدب العربي والفارسي والتركي. لأنَّ شعره جمع بين الرمزيّة الصوفيّة والفلسفات القديمة، كما أن هذا الأسلوب ألهم العديد من الشعراء والفنانين الذين جاؤوا بعده، يتجلى تأثير النسيمي في الأدب العثماني في نتاج شعراء عثمانيين كبار مثل فضولي (1483 – 1556)، ونفائي خطائي (1487–1524)، وپير سلطان أبدل (1480–1550)، الذين يُعتبرون من أتباعه. فضلا عن تكرار طباعة أعماله عبر التاريخ العثماني.

كانت حياة نسيمي مليئة بالتحديات، وتعرض إلى معارضة شديدة من السلطات الدينية والسياسية بسبب أفكاره الثوريَّة والخارجة عن المألوف، وخاصة في ما يتعلق بفلسفته الحروفيَّة وتأكيده على وحدة الوجود ورفضه للتمييز بين الله والإنسان. في نهاية المطاف، تعرض نسيمي للموت بسبب هذه الآراء، حيث تم إعدامه في عام 1417م. وقد أُتهم بالكفر والإلحاد بسبب معتقداته الصوفيَّة، على الرغم من كونه كان في نظر العديد من أتباعه وأتباع الفلسفة الحروفيَّة رمزًا للروحانيَّة الصافية والحقيقة الكونيَّة.

تُوفي نسيمي في مرحلة كان فيها شعره قد بدأ يحظى بتقدير كبير في الدوائر الأدبية والفكرية، ورغم وفاته المبكرة، إلا أن إرثه الشعري والفلسفي بقيَ حيًّا في الأدب الإنساني والصوفي لعدة قرون، وما زال تأثيره ممتدًا في الثقافة الصوفية والفكرية إلى اليوم.

يظل نسيمي من أبرز شعراء الحروفيَّة في التاريخ الأدبي، وشعره يعد مصدرًا للإلهام والتأمل العميق. في شعره، نجد مرونة بين الأبعاد الروحيّة والفنيّة التي تتجاوز اللغة لتصبح رسالة معنوية تتناغم مع الحقيقة الكونيّة. لقد ترك نسيمي إرثًا فنيًا لا ينضب، فشعره وفنه الحروفي يعبر عن وحدة الوجود والوجود الإلهي عبر كلمات تحمل أكثر مما تنطق به. كلمات نسيمي في أزمنة مختلفة حملت إرثًا غزيرًا من الحب الإلهي، معترضة بطرق شتى على حدود الوجود اللغوي، وداعية للكشف عن الجمال الذي يكمن في كل حرف.

 يمكن القول إن عماد الدين نسيمي لم يكن مجرد شاعر في زمنه، بل كان مُبدعًا استطاع أن يفتح أمامنا أبوابًا جديدة لفهم الحروف كأدوات تمثيل معرفي وفني. لقد جعل من الحروف أداة للكشف عن الحقيقة الإلهية والتواصل مع العوالم الروحية، وبهذا، أصبح عماد الدين نسيمي أحد أعمق شعراء الحروفية في تاريخ الأدب الصوفي.