بهاء محمود علوان
حين انتهى عصر الطبيعية، وانتهى دورها كذلك، انكسر سحرها وتأثيرها الأدبي، ونشأت على غرار ذلك مدارس جديدة لم تعد تريد أن تعرف أي شيء عن الشعارات القديمة التي كانت سائدة. وقد كتب هيرمان بار في عام 1891 بهذا الصدد حيث يقول: "إنهم يريدون الابتعاد عن الحقبة الطبيعية وما وراء الطبيعية، وكانوا موقنين بضرورة تجاوزها والعبور عليها، حتى تتمكن ريح الصباح من الحرية من الهبوب، حاملة معها البذور التي تحمل التغيير".
وبعد ثلاث سنوات كتب هيرمان بار أيضاً أن الحداثة "تريد الابتعاد عن الواقع الواضح والمتمثل أو المتجسد بشكلهِ الطليعي".
في أزمة السرد الواقعي، يتم تقليص فئات الترتيب الوجودي أو التخلي عنها تماماً. لذا يجب فهم الأدب الحديث باعتباره استجابة لموقف في تاريخ الأفكار، حيث يتم نفي جوهر العلاقة بين الذات والموضوع، وكذلك المعاني العليا وراء العالم المادي المكاني والزماني، والتي كان شعراء العصور السابقة قادرين على استكشافها رمزياً. إن الأدب مضطر إلى خلق معاني جديدة وكأنه يحتج على العالم الموضوعي الذي كان في السابق يُعدُ وسيلة من وسائل الفن. وهو يفعل ذلك من خلال عملية مزدوجة تتمثل في إعادة الفرد إلى ذاته باعتباره الكائن الحقيقي، وكذلكَ الوصول إلى ما هو أبعد من الواقع الفارغ إلى عالم الروحانية أو إلى المجتمع الملزم.
إن العودة إلى الذات تؤدي إلى توسع ملحوظ في المواد المتعلقة بالأنا، واستكشاف الذات الداخلية، وتجارب مكثفة لحالات ذهنية ومزاجية معينة، ومحاولات متنوعة للتحرر. بالتوافق مع النقد التجريبي الذي قدمه إرنست ماخ، يستطيع هيرمان بار أن يصرح بالقول: "بأنهُ ليس لدينا قانون آخر غير الحقيقة كما يدركها الجميع". وهذا يعني أن الأمر يمتد من الخارج إلى الداخل، وحيثما تلامس الذات والعالم، ينشأ شيء "ليس إنسانياً ولا عالمياً، ولكنه الاثنان معاً"، وهو يبقى بمثابةِ "انطباع أو إحساس".
الأشياء الجديدة المثيرة للاهتمام هي الأعصاب، والروح، والذات، والحلم. في الداخل والخارج، يتدفق الماضي والحاضر بسلاسة إلى بعضهما البعض. تم إلغاء الحدود بينها عمليا. ويرى جورج زيميل أن هذه الخضوعية الجذرية هي جوهر الحداثة.
إن عملية التحلل تؤثر في الذات ذاتها، فباستسلامها للتيار المتغير من الانطباعات والأحاسيس، تغير من موقفها باستمرار، مما يؤدي إلى فقدان الذات. ولهذا السبب تحدث إرنست ماخ عن "الذات التي لا يمكن إصلاحها".
إن التغيير الأهم في نظرة العالم في مطلع القرن العشرين بالنسبة لموضوعنا يكمن في التغيير في العلاقة بين الذات والموضوع والعالم الداخلي والعالم الخارجي. إن الحق في إدراج عناصر من "العالم الخارجي" كجزء من الذات لا ينتهي أبداً، وعلى العكس من ذلك، يمكن تقليص العناصر النفسية إلى حد الاختفاء.
إن انهيار ثنائية الذات والموضوع القائمة على الجوهر والترابط الذي يسمح لنا بمعاملة بيانات الوعي مثل جزيئات الواقع وجسيمات الواقع مثل بيانات الوعي، على وجه التحديد لأن الفصل بين (الداخل والخارج) لا معنى له من الناحية الوجودية. وهذا يحول الاتجاه العلماني المتمثل في استيعاب السرد إلى نقيضه.
في السرد الحديث، تحدث ظاهرة يمكن وصفها بـ "تشييء النفس"، أي جعلها شيئاً ملموساً، حيث يتلاشى التمييز الواضح بين الذات والموضوع، ويتغير أيضاً المفهوم الأدبي للحدود. في الواقعية، تتميز كل من هياكل العالم المصور، وتلك الموجودة في النص بنظام من الحدود، يتم من خلاله تحديد المساحات الداخلية القابلة للعيش والتحكم من المساحات الخارجية الخطيرة والتهديدية. إذا فشلت الحدود المقصودة أو تم تجاوزها، تحدث الكارثة بموت الشخصية أو ما يعادل الموت. ومن ناحية أخرى فإنهُ في النظام الأدبي الجديد، يتم تجاوز الحدود ذات الصلة بالواقعية من دون معوقات، حيث لا يتم الحفاظ على الحدود بشكل أساسي في فعل العبور، بل يتم محوها، ويتم بعدها تعيين حدود جديدة يتم دفعها إلى الفضاء الخارجي، وبالتالي يتحول نظام رسم الحدود الدلالية الأيديولوجية بشكل أساسي، بحيث يتم استبدال تقسيم العالم إلى أنظمة فرعية بتقسيم من نوع المقياس المستمر، كما تشير الحدود فقط إلى علامات كمية نسبية، وتظهر الحدود المعنية مؤقتة فقط ويتم طرح السؤال ضمناً حول ما إذا كان هناك حدود مطلقة لا يمكن تجاوزها من دون انهيار النظام. في الحالات المتطرفة، يفشل التوجيه في الفضاء تماماً، أو تبدأ الكائنات المرئية في التصرف بشكل مستقل، وينهار نظام الإحداثيات المألوف للعالم.