عبد الجبار البناء.. قواعد النحت وعوالم التوظيف

ثقافة 2025/03/25
...

 خضير الزيدي 

 

من بين الأسماء الفنية العراقية التي ساهمت بإغناء المشهد الفني برز على سطح الواقع اسم الفنان القدير عبد الجبار البناء كواحد من الأصوات المهمة التي تغني مشهدنا بزخم بصري وجمالي حيال ما تصنعه أنامله وما تعالجه أفكاره الحداثوية مع مادة الخشب. ففي منحوتاته اتساع حكائي يتفرد به هذا النحات من خلال رؤيتنا البصرية لهذه الأعمال، فهي على سعة شمولها تمثل خطا متوازيا ومتينا يخلف لمن يراه للوهلة الأولى شعورا بعمق وأصالة ما تذهب به منحوتات هذا الرجل وما يتركب فيها من بنائية تشي برمزية تخلد من قيمة الإنسان عبر متوالية الجسد أو التقديس الأسطوري لمحاولة الامساك بخيوط مظاهر التاريخ/ والمكان، ومثل هكذا رؤية جمالية وفكرية تبدو غنية بمعالجاتها لما تهرع إليه الذاكرة، وهي تعمق فكرة تطويع مادة الخشب لتستسلم لخطاب الجمال الذي يذهب به البناء حينما يربط بين محيط البيئة العراقية ومسوغات نسيج الذاكرة فربما تكون إشارات أية أعمال تغني عن تصورات لم تظهر ارتخاء حيال الأواصر البنائية المركبة للمنحوتات، لكن مع هذه الأعمال المستقلة برؤيتها البصرية والفكرية تجعل من رسالتها تدخر ما يكفينا من رؤى وامتثالات نقدر رجاحتها ومكانتها، ليس لأنها تحمل شفرات بيئة عراقية بل لسبب يبدو بسيطا لنا جميعا وهو إنها  تحاول أن تدمج بين واقع تتمثل فيه الأشياء بحسية كبيرة. بعيدا عن غموض في الأسلوب أو التنظير وهذا ما يجعل رسالتها التعبيرية عصية على الابتعاد عن مؤشراتها ومرجعياتها وهنا يبدو لي أهمية السر الذي يميز كل فنان عن غيره وهو أنها تستنطق ذاكرة زمن ما وتاريخ ما يعود إليك وليس لغيرك ليتحول أساس وصفك للأشياء إلى امتثال مرئي تقصده الذاكرة والخيال معا وهذا التجاور لا تضاهيه حمولة الشكل من خلال ما تراه العين مؤقتا سواء عبر تعرجات العمل المقصودة في البناء الشكلي أو مسايرة البنى التصويرية لعالم النحت من حيث التركيب الداخلي والخارجي، بل لأن المنظومة الفكرية والجمالية لهذا النحات التي أعطى أكثر من نصف قرن للفن أهمية قصوى من حياته هي السبب وراء هذا الفن الموجه للإنسان. واعتقد أن العمل المتواصل من دون انقطاع وكثرة الممارسة الفنية والتخطيط المسبق لها ولدت أسلوبا جماليا لهذا الاسم البارز في النحت العراقي.

ونستطيع أن نستدل على منحوتاته من خلال أسلوب واضح ومميز دون أقرانه سواء الذين يتعاملون مع المرمر أو الخزف أو البرونز وحتى أولئك المتعاملون مع مادة الخشب فكثير من الممارسة وقدرة عالية من التركيز الفني ومحاولة الامساك ببنية شكلية هي الأساس في تكوين الأسلوب إضافة إلى مميزات ثانوية تتفاعل مع روافد أساسية قد تشكل في نهاية المطاف خيارا لا تزعزعه رؤية الشك وراء من يقف خلف هذه الأعمال؟ ربما  تصعب علينا  الإحاطة برؤية كل أعمال هذا النحات لنميز خياراته أو نعثر على مواضيعه لكن في تداخل بصري لرؤيتنا لبعض أعماله نعثر هناك على أساس بنائي يرشدنا لمعرفة الأسلوب والرؤية الفكرية لهذا النحات فكأن الإنسان بكل إمكانياته الوجودية والفكرية محل اختيار لفكرة النحت لديه فكل عمل له يمتلك دينامكية فعالة وسفرا من الحياة فماذا يقصد عبد الجبار البناء من رؤيته هذه؟ إذا كانت الأعمال العراقية القديمة تزاوج بين فكرة المرأة والثور والإنسان والحيوانات ذات التركيب والبنية القوية وخاصة المفترسة منها فإن منحوتاته ذهبت إلى أبعد من تلك الرموز التي تعادل بين ثنائية الخير والشر إلى ثنائية القبح والجمال فأعماله تتخذ من الإنسان دليلا لها. تكفي أن تعطينا تصورا لنتدارك شكنا حيال رؤيتها التعبيرية فهو يشكل داخل منظومته التعبيرية جوا وبناء روحيا لقيمة الإنسان وهذا ما جعلها ذات رمزية خالدة لينبثق منها التعبير والانخراط بأفعال حياتية تحمل من سمات الإنسانية الشيء الكثير فأعمال فنية خيالية امتد بها الزمن لخمسين عاما تعالج في رؤيتها التكوينية والجمالية عوالم الإنسان العراقي لكفيلة بمدنا بمقياس لحظة الزمن والمكان مع الاهتمام بعلاقات كونية محيطة ترتبط بوحدات تعبر عن الجسد وديمومته وأنساقه الروحية والمادية فالجسد الآدمي في فكرته النحتية يشي بكيان تمثيلي مجرد من تحولات لعبة ما هو غرائبي. توجد ثلاثة مؤشرات بنائية تعتمدها الرؤية الجمالية خيارا فنيا وفكريا الأولى أن منحوتات هذا الفنان تعالج على وفق رؤيتها مدارك اللحظة الخاصة بالإنسان سواء ارتبطت بتحولات زمنية أو ابتعدت برؤيتها عن إثبات ذلك وثانيا يخصص النحات مجالا واسعا لحركة المنحوتات في الشكل الخارجي، وهو ما يخلف رؤية حداثوية من خلال رصدنا للشكل الخارجي الغاية منها إعطاؤنا نتائج واضحة المعالم لرصد صورية الجسد الخارجي وثالث المؤشرات أن الإنسان كتعبير جوهري هو أساس لعبته الفنية.