سؤال نصادفه يوميا، عندما تتحدّث مع أجنبي هنا في أوروبا، أو في أسواقها، ومنتدياتها، ومطاراتها، أو حتى مع عربي من بلد آخر، أو عراقي من مدينة أخرى، من أين أنت؟ سؤال يُوحي بأن هوية كل واحد منا تمر عبر المكان، لا مناص من ذلك، مهما موّهت جوابك أو تلعثم لسانك، لا بدَّ أن تحدد بلدك ثم مدينتك. وقد لايكفي هذا الجواب لمن هو في العراق، عليك أن تجيبه عن المدينة، القضاء، الناحية، وأحيانا القرية، وقد يطول الجواب، فتجد نفسك غارقا في العشيرة، والمدرسة والزقاق والمحلة. كلّ المرجعيات تعود إلى الارتباط بالمكان، وهذا يعني أن المكان يؤلّف جزءا أساسيا من الهوية الذاتية. هذا التكوين جزء من عوالم الأنثروبولوجيا المعاصرة، وسنجد أنفسنا غارقين في التفصيلات الدقيقة لإثبات الهويات الأصلية التي تنتمي للمدن المعروفة مثل بغداد، نينوى، البصرة.
سنعيد تصورنا في بناء الهوية إلى ميادين أكثر جذرية من المدينة، فالمكان الذي يثبت للذات هويتها، يتصف بثلاثة مفاهيم أساسية: “هوياتي، تاريخي، وظائفي” يمكن لعدد معين من الأفراد أن يتعرفوا على أنفسهم من خلال انتمائهم للمكان، وتحديد هويتهم من خلاله”.
وقد تتطلب الهوية أن تتغلغل بعيدا في تفاصيل الأمكنة، كان تكون بيوتا مفردة او مجمعات سكنية. وقد تؤسس هذه الظاهرة لجماعات شبه متجانسة، إذا ما ارتبطت بهوية غير قابلة للتغيير، ونحن نعرف أن العمل في المدينة يستعير كينونة المدينة، ومن ثم يغيّر من الهوية الشخصية للعاملين فيها، كلما أُضيفت لكينونتها متغيرات جديدة، فعمال السكك أو النفط، أو السجائر، يضيفون لهوياتهم المدينية هوية العمل، وقد تغلب هوية العمل على هوية المدينة إذا وعي الفرد هوية انتمائه الطبقي، وككل الهويات الساكنة تعود إلى ما هو غير صناعي أو إبداعي، لأنَّ القرية والريف تُسَكّن الانتماءات، لتربطها بتكوين قبلي عشائري، ملغيَّة أية هوية عملية أخرى، وهو ما يضيَّع جزءا مهما من تركيب الشخصية الثقافي والفكري، ويشدّها إلى أوتاد القبلية التي لا تنهض بمهمة الحداثة مثل الهويات التي تعود انتمائيتها للعمل والتقنية والمدينة وتطوراتها.
أما الانتماء التاريخي كجزء من تعيين الهوية، فيعود إلى “مستوطني المكان الذين بإمكانهم أن يجدوا فيه علامات متنوعة على استيطان قديم، أو إشارة إلى نسب”. هكذا يكون المكان ذا قيمة رمزية “حين يشير إلى العلاقة الموجود بين الفرد وبين كل واحد من مستوطني المكان وإلى تاريخهم المشترك”. وأما الوظيفية، فالمكان المخصص لهوية عمل يكسب العاملين فيها هويته العملية، ومن ثمّ يمكن لهذه الوظيفة أن تنقل الفرد من هوية ساكنة إلى هوية متحركة، وبذلك فالبعد الطبقي للفئات الاجتماعية يعتمد في بعض توصيفاته على الهوية الوظيفية.
من انت” ومن أين أنت؟ ما تزال هذه الأسئلة غامضة، تتبع نبرتها طبيعة السائل، وقد تكون الأجوبة أدلة تثبت شيئا ما، وقد تكون عادية، من يسألك عن تثبيت معلومات في هوية الأحوال المدنية عليك أن تكون دقيقا، ومن يسألك عن انتمائية المدينة، عليك ان تكون عاما، يكفي أن تقول لابن نينوى أنّك من البصرة، أو النجف، ولكن لايكفي ان تقول لابن مدينتك أنّك من المدينة نفسها، عليك بالتفاصيل، ومن هنا تدخل الهوية وتعيناتها بتشعبات المدينة، وهوياتها الفرعية، والمجالات التي تتعامل معها.
ترتبط التوصيفات الحداثية اليوم بعالم المدينة، ولكن علينا أن نتعرف على المدينة، من هي المدينة التي تكسب هويتي طابعًا متميزا لا يتسرب إليه الشك؟، المدينة عالم حي، وكائن يتجدد، ومجال لايستقر على بنية ثابتة، لكن ما يفيد فيها هو أنها مكان: والمكان مفهوما وفلسفة “مجال متجسد في رموز بمعالمه، وآثاره، وقوته الاستحضارية، كل ما يشترك فيه أولئك الذين يقولون إنّهم أبناء هذه المدينة”. فالسؤال من أنت؟ يوحي بأن هويتي تمر عبر المكان الذي أسكن فيه. وتتأكد عندما يفهمني الآخر.
وإذا جئنا للأدب، وتعاملنا مع المدينة، فسيكون للمدينة مكانا متميزا، ونعني به انثروبولوجيا المدينة، أي “مكان للتمثلات” التمثلات التي يمكن أن نجد نسخة متواضعة وفردية منها في الكلام المتداول، وهذا يعني أن الكلام أحد الرموز التي تعيّن هويتك بتعيين هوية كلام المدينة. فالكلام حقل واسع من الدلالات والرموز لا تستوعبه اللغة، وبالقدر الذي يكون الكلام مرنًا وشعبيا ومستوعبا لسجايا الناس وعلاقاتهم الجذرية مع مكونات المدينة، يمنح الأدب طاقة على اتساع المخيلة، وعلى تنشيط الذاكرة، وجعلها وعاءً يستوعب الحالات المهملة أيضا، من هنا، نجد أن الإبداع الأدبي يزدهر في المدن التي تتضايف فيها اللهجات الكلامية، وتتحاور بعضها مع البعض، منصهرة في بوتقة العلاقات الاجتماعية والعملية، مشكلة أرضية لكلام يتحوّل إلى ثقافة. ولعل لهجة بغداد ليست هي اللهجة التي كانت قبل سبعين عامًا مثلا، حين تداخلت معها لهجات المدن الوسطى والجنوبية والشمالية، لتصبح عاصمة للكلام اليومي، الأمر الذي وسّع من علاقات أبنائها بمحتويات المدن الأخرى وانشغالاتها المتنوعة.
ويبقى للمدينة والكلام، للمدينة والشخصية، للمدينة والهوية، مجالات أخر لا تستوعبها هذه المقالة، ففي بغداد اليوم مثلًا أمكنة يقال عنها “مكان”، وأمكنة اخرى يقال عنها “لامكان” وهذه التصنيفات لا نجدها في مدن عراقية أخرى، لسعة بغداد ولتنوع انشغالاتها المحلية والعالمية.
فالمطار في بغداد لامكان، والطرق السريعة فيها لا أمكنة، بينما لا تجد هذه التكوينات المكانية في مدن أخرى ليس فيها مطارا وطرق أوسترادات، فضلا عن أن المدن العراقية منقسمة أنثروبولوجيا إلى نوعين: مدن أرضية ومدن سماوية، فالنجف وكربلاء، مدن سماوية وان كانت على الأرض بينما بقية المدن العراقية أرضية وأن تعلقت حياتها بالسماء، وثمة مدن تراثية واخرى تاريخية، فبابل وأور ونينوى مدن تراثية، بينما الكوفة والبصرة والرمادي، وديالى، مدن حضارية، كل هوية تحدد بالمكان.