د. طه آل يس
إنَّ الوجود الحقيقي هو في نظر الوجوديين ميزة لا يمتاز بها سوى الإنسان، لأنَّه يتطلب الاختيار والحريَّة، ولأنَّ بعض الناس لا يتمتعون بهذا الاختيار، فلا يكون لهم وجودٌ حقيقي، فالأفراد الذين تقودهم الجماعة، ولا يقومون باختيار حقيقي فإنهم كما يقول "هيدكر" لا يوجدون على الحقيقة، لأنَّ من يوجد حقيقة هو كما يرى سارتر الذي يختار نفسه بكل حريَّة، وهو الذي يكون نفسه. أعني هو الذي يكون من صنع نفسه، فالوجود إذن مرادفٌ للاختيار، ومن يتوقف عن الاختيار الحر عند مرحلة معينة يتوقف عن الوجود الحقيقي.. والتوقف عن الاختيار خيانة للوجود الإنساني.
يحتلُّ الاختيار مكانة بارزة في فلسفة "كيركيجارد" فقد كان عنوان روايته هو "التناوب" إنه لا بُدَّ لنا من الاختيار، والحقيقة إنَّ فكرة الممكن ليست ذات قيمة، إلا لأنها مرتبطة بهذه الفكرة من الاختيار، وبهذه الفكرة من الاختيار في الزمان، ستكون لدينا درجات شتى من الاختيار؛ إذ إن هناك اختياراً سطحياً وهو ما يدعوه "كيركيجارد" بالمجال الجمالي، وهو مجال المتعة الخالص، بيد أن هناك الاختيار الأخلاقي، والاختيار الديني.
لقد كان "كيركيجار" يعتقد أن الأمر لا يتعلق باعتبارات موضوعيَّة، مثل الاعتبارات الهيجليَّة، ولا يتعلق باعتبارات علميَّة، مثل اعتبارات الفلاسفة الديكارتيين أو الكانتيين، بل إنه يتعلق قبل كل شيء، بأنْ يكون المرء ذاته، في علاقة مع المطلق، وحتى إذا كان الاختيار الذي نقوم به، يشير علينا بحلول تبدو غريبة عن الأخلاق، أو يفرض علينا هذه الحلول، فإنه ينبغي لنا أن نأخذ هذا الاختيار على عاتقنا، وينبغي لنا أنْ نمضي إلى ما فوق الأخلاق، من دون أن تكون هناك دلالات موضوعية يمكننا الرجوع إليها، وقد أضاف "كيركيجارد" قائلاً: إن الاختيار لا يمكن على كل حال أن يتم جزافاً فالحريَّة لا تعني المصادفة ورمي فص النرد، وإن خاصية الإنسان هي أن يضطر إلى وضع اختيار حر، فالاختيار حر وقسري في وقت واحد فأنا مضطر إلى أن أختار وما أختار، وأنا لا أختاره في حريَّة إلا حين أرى أنني لا أستطيع إلا أن أختاره (وذلك مثلاً في لحظة الموت التي يتجه فيها الاختيار إلى الضروري الوحيد)، وينبغي ألا نفهم من هذه العبارات التعسفية المبتورة المتناقضة في الظاهر أكثر من الاختيار إنما هو في الواقع اضطراري وحر ولكن ذلك من زاويتين متباينتين: فهو اضطراري بمعنى أنه إجباري، وهو حر حيث لا إكراه فيه، فما هو إذن الاضطراري، أو الإلزام المطلق الذي يحدد الاختيار للفعل؟ يقول كيركيجارد إن "معناه أن الأنا لا بد لها أن تختار بصورة مطلقة، وأن تختار ذاتها طبقاً لما فيها من اللاتناهي والخلود".
كما إننا سنجد فكرة الاختيار هذه في فلسفة سارتر أيضاً، إن سارتر يلح بصورة خاصة على حقيقة إنني إنما أصوغ القيم عن طريق اختياري؛ إنني أساس القيم التي لا أساس لها؛ إذ إنني أنا الذي أضع أساساً لكل شيء، إنني أنا ذاتي بدون أساس ، ولكن سارتر يقول لنا: إذا كان الإنسان حراً فهو سيظل كذلك على الدوام...فالحريَّة تبدو بصورة دائمة لدى سارتر وكأنها تحديد وتناه، كما تبدو لدى ياسبرز وهايدكر، إن الفعل الحر هو دائما فعل نختار به شيئاً خاصاً.
نلاحظ أن الوجود عند الفلاسفة الوجوديين مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالفعل الإنساني والعمل الإنساني، والممارسة الفعلية لحريَّة الإنسان في الاختيار والسلوك وليس مرتبطاً بالتفكير في الوجود، لأنني مهما فكرت في وجودي فإنني لن أصل إلى تعريفه أو إدراكه ، لأن الوجود ليس شيئاً من الأشياء الجامدة التي يمكنني أن أصل إليها بفكري، بل هو قوة متجددة على الدوام، تتبدى خلال اختياري الحر في طريقي نحو التقدم المتواصل .
لكن هل الحريَّة عند الوجوديين مطلقة، بمعنى إنها لا تعترف بأي قانون أو إلزام أو جبر؟ نجد عند الوجوديين الكثير من الأقوال التي تبدو في ظاهرها وكأنها مناقضة لمفهوم الحريَّة عندهم، إذ إنهم يربطون بين الحريَّة والضرورة، فالحريَّة المطلقة التي لا تعترض طريقها العقبات حريَّة خاوية لا معنى لها، ومن هنا ربطوا بين الحريَّة والضرورة وأنكروا أن يكون هناك تعارض بين الحريَّة والقانون، لأن الحريَّة تفترض القانون، فهو الذي ينظمها ويكفل بقائها فلو سلمنا بالحريَّة المطلقة تماماً لكانت مرادفة للفوضى.
وعلى ذلك ذهب كيركيجارد إلى القول بأنني لا أعرف الحريَّة في اختياري إلا حينما أسلم نفسي للضرورة، وحينما أسلم نفسي لها أنساها، وبذلك يكون الاختيار الحقيقي عنده هو الشعور بأننا لا نستطيع أن نعمل إلا ما نعمله؛ أو بعبارة أخرى إنني لا أستطيع أن أختار إلا ما أختار، وهذا يعني إن الحريَّة لا تلغي القيود والضرورة بل هي دائماً مرتبطة بتلك القيود والالتزامات...وإلى هذا الرأي ذهب هيدكر وياسبر، أما بالنسبة لسارتر فقد بدت الحريَّة عنده وكأنها مطلقة، لأن الإنسان عنده سيظل حراً حريَّة مطلقة حتى وهو في أشد المواقف قهراً وجبراً " إنه حتى مقابض الجلاد لا تعفينا من أن نكون أحراراً" .
وعلى هذا النحو فالإنسان ليس مسؤولاً فقط عما هو عليه بل إنه مسؤول عن الآخرين جميعاً، إنه ليس مسؤولاً بمسؤوليَّة كلية عن وجوده فقط، بل هو مسؤولٌ بمسؤوليَّة كليَّة عن وجود الآخرين، فأنا لا يمكن لي أنْ أريدَ حريتي، من دون أنْ أريدَ حريَّة الآخرين في الوقت نفسه.