لوحات إياد زيني.. الألوان المائيَّة وتخطيطات الوجوه

ثقافة 2025/03/26
...

علي لفتة سعيد


ليس من السهل التعامل مع ما نسمّيه الأصباغ المائية. فهي تحتاج إلى فرشاةٍ بوزن ميزان، وإلى يدٍ بمرتبة شاقول البناء، وإلى مخيَّلةٍ بسعة الخطوط التي ستلونها وتحولها إلى لوحة. وهو الأمر الذي يجعل الكثير من الفنانين يندرجون في رسم اللوحات الانطباعية، كونها تعطي دقَّة الميزان، وقوة اليد، ومهارة الخطوط.

اللجوء إلى الانطباعية ليس بالأمر السهل مع موجة الفن التشكيلي الحديث، ولهذا نرى لوحات الفنان إياد زيني، مثلاً، تذهب بعيداً في استخدام الألوان المائية من خلال الممازجة بين عنصر الإبداع والتوازن اللوني وبين الخطوط التي تنقل الواقعية، ولكن ليس بطريقة الاستنساخ الصوري، خاصة للأمكنة والوجوه. وربما هو من الفنانين القلائل الذين ينفذون وينتجون لوحاتهم من خلال الألوان المائية. ربما لأنه يجيد خلق الصورة ونحتها من خلال الفرشاة التي يغمسها في الماء. وربما لكونه خطاطاً يتعامل مع الفرشاة والأصباغ لخطّ اليافطات واللافتات والإعلانات التي تُنجز على قطع القماش، وكذلك هو موسيقيّ بارعٌ وملحّن، يعزف على آلة العود كمن يتقن حرفة التلوين اللحني، فتزيده هذه المواهب سعةً في استخدام الألوان المائية. ولهذا فهو يستخدم هذه الألوان لنقل الصورة الواقعية، ولكن من خلال تداخل الحركة التجريبية التي تعطي الملامح الانطباعية بقدر ما تعطي الدلالة التي تبيّن واقعية الصورة مع حركة الفرشاة بانهمارها اللوني المائي، وكأنه يمنح المرأة العجوز ذلك التأمل المختصر لمعاناة الحياة.

فهو ينقل الحياة كونه مشغولاً بالواقع. الوجوه لديه ليست علامةً على الواقع فحسب، وليست علامة التجاعيد فقط، بل هي تعطي دافعاً لمعرفة ما يدور في المخيلة من خلال تفاصيل هذه الوجوه التي تعكس معنى المعاناة في الحياة، خاصة وجوه الناس البسطاء الذين تزخر بهم لوحاته، ووجوه الأطفال الذين ترسم ملامح البراءة من جهة وتيه المستقبل من جهة أخرى. يرسم بنظراتٍ هائمة تحمل من الأسئلة أكثر مما تحمل من الإجابات، تاركاً للمتلقي الانغماس في تفكيك وتحليل اللوحة، إن كانت تحمل وجعها الطفولي، أو وجهاً أخذ العمر به إلى طريق الانكسار والتأمل الذي لم ينتج منه جواباً على معاناة وصراع الحياة.

حتى وهو يرسم صوراً للمرأة، لا يرسمها بمعناها الأنثوي بل بمعنى الصراع الذي تعيشه، وكأنه يضع الأسئلة الكثيرة عن معنى تلك الخطوط، حتى لو كانت الصورة لامرأةٍ نصف عارية، فالعري هنا سؤال للمجتمع أكثر منه إجابةً للوحة. وجه الطفل لديه، وإن كان مبتسماً، يراه المتلقي وكأنه يبحث عن المستقبل أو يشير إلى معاناة الحاضر. ووجه الرجل المسن هو تعبيرٌ عن قوة الخطوط من جهة، وقوة تمادي العمر في الاشتغالات العديدة، متنقلاً به من أطراف الماء إلى هامشية الحياة التي لم تمنحه سوى التعب والكدر.

وكذلك يلجأ الفنان زيني إلى رسم الأمكنة، خاصة الكربلائية التي وُلد فيها وكانت بيئته الأولى، لتحويل المكان من مجرد رسمٍ خرائطي إلى مجسم لذاكرةٍ تنعم بالفطنة. فالمكان لديه هو دلالةٌ لدليل المعنى، وهو مدلولٌ للحصول على القصدية الفنية، وإفاقةٌ لما تخلفه الحركة الفرشاتية لتكون معبّرةً عمّا وراء اللوحة. فالمكان معروفٌ لمدينةٍ مثل كربلاء، لكنه يحول اللوحة إلى منظورٍ ما ورائي.

لكن الفنان زيني لا تقتصر لوحاته، وإن كان قد اشتهر بها، على الوجوه والأمكنة، بل تتعداها إلى رسم اللوحات المائية بطريقةٍ تجريدية، لكنها أقرب إلى الوضوح الواقعي، كما هي في لوحته "صراع الديكة"، مثلاً. بدلاً من ممارسة صراعها المعروف، جعلها تتصارع مع الكرة، وهو تأويلٌ سياسي وقصديةٌ تفاعلية ما بين الصراع الذي يكون ضحيته الناس، المعبر عنها بالكرة بين أقدام الديكة. ولهذا نجده يتنقل في أغلب الأحيان بين الوجوه والأمكنة والحركات التي تؤديها الأجساد، فضلاً عن الأفكار الأخرى التي لا تخرج عن الواقعية ولا تنغمس في السريالية، مثلاً، أو الفن التشكيلي المعاصر. فلوحاته تندرج وكأنه يريد معانقة الخيال بالواقع عبر سيل الماء الملون. فهو لا يعقِّد اللوحة بالتغريب، ولا يرسم بدقة الصورة الفوتوغرافية. ولهذا يتميز بلوحاته التي تحمل طابعاً فنياً فريداً يجمع بين الأصالة والحداثة.


الملامح الفنيَّة ولمسات اللوحة

لكل فنانٍ ما يميزه عن الآخر من خلال ملامح الحركة التي تعطيها حركة الفرشاة من جهة، وقوة التفاعل مع الفكرة. فالكثير لديهم أفكار ومخيلة، لكن ليس من السهولة نقلها إلى لوحةٍ فنيةٍ معبّرة. لكن زيني يعتمد على الشفافية والتداخل اللوني بشكلٍ يصل فيه إلى درجة الإبداع، كونه يمنح لوحاته عمقاً بصرياً وتداخلاتٍ لونيةً مميزة. ويهتم بالتفاصيل الدقيقة، رغم أن الألوان المائية تسرق هذه الدقة وتحيلها إلى تجمعٍ ألواني، وهو ما نراه في لوحاته التي تتخذ من الأماكن والمشاهد الطبيعية موضوعاً.

خاصة حين يميل إلى استلهام الموروث ودمجه برؤيةٍ معاصرة لها بُعد بصري معروف لدى المتلقي، بما فيها العمارة والأسواق والشخصيات الشعبية. ويجعلها لا تخرج عن العاطفة حين يدمج فيها المشاهد العاطفية من خلال نظرات الوجوه التي تنقل السؤال بسكينته وصراعه الهادئ أو الصامت.

كل هذا يعتمد على المقدرة الأسلوبية التي تحتاج إلى لمساتٍ قادرةٍ على معرفة حجم اللون بالماء ومقدار ما تحتاجه اللوحة، فينتج خطوطاً غير جامدة، ما يعكس خِفَّةً وانسيابيةً في لوحاته. حتى أنه لا يغفل في الكثير من لوحاته الترابط بين الضوء والظل أو ما يسمى توزيع الإضاءة، لخلق فعل المشاهدة المتعلق بالدراما الجاذبة لماهية اللوحة. ولهذا تميل لوحاته إلى الصفاء أو الشفافية الهادئة غير الباذخة لإضفاء جمالياتها الطبيعية.


الأفكار وديناميكيَّة الحركة

ولأنه يبرز الوجوه والطبيعة والأمكنة كمصدر إلهام، فإنه يبرز الكثير من معالم الريف والعودة إلى الجذور. فالعلاقة بين الإنسان العراقي والخضرة تتجلى في الماء والنخيل والطيور، وهو ما يعكس جمال البيئة التقليدية. فتأخذه اللوحة إلى الاعتماد على ألوانٍ متناغمة لعكس الطبيعة، سواء تلك التي تعاني من الصراع، أو التي يريد الكشف عن جماليتها. فهو ما بين بعث السؤال في الوجوه، يرمز إلى الجمال في الوجوه الأخرى.

يركز على توثيق حياة الناس البسطاء، مع التركيز على تفاصيل الملابس التقليدية والتعبيرات الطبيعية. وبالنتيجة يخلق عمقاً بصرياً رائعاً. فهو يضيف تفاصيل إلى حركة الفرشاة لرؤية ما هو غير مرئي من الطبيعة، وبالنتيجة تجسد لوحاته الجمال البسيط من أجل التعبير فنياً عن المحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه.