اللوحة الفارغة

ثقافة 2025/03/26
...

 بغداد: مآب عامر 

 

منذ أن قرأت الخبر وشاهدت «اللوحة الفارغة» للفنان روبرت رايمان، لم أتوقف عن التساؤل: هل تُقيم الأعمال الفنية بناء على شهرة صاحبها أم جوهر الإبداع؟ لاحظت شيئاً غريباً، حيث المبالغة في تمجيد الفنان بعد رحيله، بينما تظل أسئلة الجودة والعمق الفني عالقة. ومهما كانت أسباب تقييم الفنان ومدى عمق رؤيته للعالم والحياة حقيقة فإن اللوحة البيضاء التي تثير الجدل والاستغراب، وتلك مساحتها التي تبدو للوهلة الأولى فارغة دفعت الأمر في مخيلتي ليكون مثل لغز يستحق التأمل والبحث. ولأنني لست متخصصة في الرسم، فقد اِزداد فضولي حتى اكتشفت بأنه وعلى ما يبدو ليس هناك فراغ، وأنه فكرة تعود إلى ما يعرف بالفن المفاهيمي، ولكن وكيف تُعاد كتابة قواعد الجمال في هذا النوع من الفن؟ وهل يشتغل الفنان العراقي على الفن المفاهيمي؟ 

وهنا يقول الناقد الفني خضير الزيدي إذا توجب علينا التذكير والانتباه في ما أن كان هناك فن مفاهيمي عراقي، أو فنانون قدموا منجزا يذكر، فسيكون جوابنا بوجود حالات متردية وضعيفة وخجولة فيما قدمته وهذا لا يعني انتكاسة أو تردي بل يعني محاولات لم يكتب لها النجاح. 

ويضيف الزيدي أن هناك استثناءات ولكن قليلة جدا ومحاولات سيكون لها شأن في المستقبل مع الاعتراف أن الغالبية ممن ينظر للفن المفاهيمي لم يعرف وجهته ولم يبين آراءه بعد، والسبب هو الاجترار المتواصل في التأثير بالفن الغربي والركض وراء الماكينة الإعلامية الغربية للفن المفاهيمي على العكس مما قدم في الرسم منذ ستينيات القرن المنصرم ليومنا هذا، أو في عالم النحت عبر العديد من خاماته المستخدمة كالمرمر والبرونز والخشب وبعض المعادن الأخرى. يبقى الفن المفاهيمي عندنا في طور النشوء يسير بخطوات بطيئة لم تصل بعد إلى مستوى مطلوب.

لا أعرف إن كانت لوحة روبرت رايمان فارغة حقا، لكني أدرك أنها تحمل فكرة من مفاهيمنا عن الإبداع. لأن هذا الفن يعتمد في الإشارة إليه على مواد وأشكال تظهر في العادة ابعاداً فكرية ولغوية وهندسية بصرية، وكذلك أنظمة وهياكل غير مرئية. 

وعلى ما يبدو أن انحسار الفن المفاهيمي في العراق يتعلق بالفنانين على الرغم من أنني أجد أن للمتلقي الدور الكبير، لأن أساس الفن المفاهيمي ممارسات استفهامية تجسد فكرة يمكن تحقيقها باستخدام أية مادة بمفردها أو متطابقة مع عناصر أخرى معروضة تشكل العمل.

الغريب أن غالبية الفنانين وخاصة خلال ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي كانوا يرفضون تبني «المفاهيمية» في أعمالهم، لكنهم اليوم اختلف الأمر وصاروا يحرصون على ربط اسمائهم بهذا المصطلح، فعلى سبيل المثال أنتج التشكيلي العراقي محمود العبيدي الذي يسبق اسمه عبارة «فنان مفاهيمي» من خلال مجسمات وأسلاك وأشياء مختلفة تثير توقعات خلقها السياق الفني الذي وضعت فيه وهي المتاهات التي ربما تكون أيديولوجيات أو مقاومات ذات فلسفة عميقة ولكنها تذهب بنا نحو السريالية التي تمثل نقطة انقسام بين الحداثة والمضادة لها.  

ولكن مع كل ذلك، هناك أسئلة أكبر تتسلل إلينا دوماً: ما الذي يجعل العمل فناً مفاهيمياً؟ ومن يقرر ذلك؟ يبدو أن الفن المفاهيمي يتجاوز الشكل ليصبح حواراً بين الفنان والمتلقي، وربما اللوحة البيضاء أو الفارغة برغم صمتها كانت أكثر الأعمال صخباً في دعوتها لاستجواب ذائقتنا.