حبيب السامر
تتحقق عوالم الكتابة من خلال تصاعد نسغ الحياة، وتأثيثها بمهارة الخطاب المؤثر لتواصل تمرينها المستمر بغية كشف العوالم الأخرى الباحثة عن حلول في لحظة ما. مستندة على الخبرة الفنية والحياتية التواقة والمتوقدة وفق اشتغالات موضوعية ومفاهيم جمالية، لتوضيح تلك الأسئلة العالقة والمنشطرة في بنية النص.
تتفاوت الآراء وتتباين، وقد تتفق بأن الكتابة هي الجوهر الأغلى الذي توصل إليه الإنسان في بستان الحياة، كونها تمثل الصرخة الأطول، كما أطلق عليها الشاعر الألماني جان بول "صرخة العالم"، وهو ينظر العجز الحقيقي تجاه العالم أمام ظلمه، وتنمو الفكرة في حقل إنتاجها عن تلك الروح السابحة في بحور ذواتنا، وهي تحاول أن تكسر طوق الصمت الذي التزم به (برتولت بريخت)" لن يقولوا: كانت عصورا مظلمة، بل سيقولون: لماذا التزم الشعراء الصمت" ونعود إلى التباين والتقارب في الآراء التي تشتغل على الفعل المتحرك في مجرة العالم بتدفق وجود إبداعي ودلالات مكتنزة متخيلة تتوزع بأجناسيات متعددة تستثمر الحكايات والأفعال، تتكثف، تستطيل، تلك الموضوعة التي تعتمد على مساند المبنى المتجدد للعالم المصغر، لتنتج شبكة أفكار مشبعة بالأحداث المعيشة والمتخيلة.
يشكّل سر ارتباط ذهنية الكاتب بعالم الكتابة، والانغماس بطقوسها حجر الأساس في مشروعه، الذي ينمو مشبعا بروح الإنسانية ورسم تأملات حياة الناس والغور في تشكلات الحضور والغياب والتجاذب بينهما في فتح نوافذ التواصل، عبر حوار دائم مع الذات والمجتمع.
كون القراءة العميقة تدعونا إلى خلق حوار عفوي متصل بين النص والمتلقي ويتسم بالتفاعل مع المرتكزات الأساسية للأفكار المتنوعة واستنباط لغة مشتركة مع الشخصيات، وبهذا نحيط القارئ بمستلزمات الفهم وتكوين أواصر حقيقية للوعي وتطور أدواته عبر وسائل ووسائط تتخذ من القراءة عبر العصور كيفية تطور ملامحها وطرق استقبال مفاهيم الوعي والمعرفة، وتجاوز حصر الكتب وفهمها بيد النخبة، من خلال الترجمة للإطلاع على عوالم متجددة ونقل سماتها وما تتركه من مساحات على حياتنا والخوض في حيوات أخرى.
من خلال القراءة ندرك مجسات الأشياء، تسحرني القراءة التي ترافقها بعض التدوينات السريعة على حافات الورقة بقلم الرصاص، إذ لم يخلُ كتاب من ترميزات عاجلة أعلى الصفحة أو بخطوط متعرجة على حوافها، هكذا تعودت أن أتفاعل مع الكتاب بالعديد من الحواس، التي تشترك في تلك اللحظة.
أحيانا، يسير منحى النص الذي يحاول الكاتب تتبع آثاره على غير ما يتمناه وما هو مخطط له في بلوغ ذروة تصاعد خطه البياني، إذ تظهر في أثناء الكتابة أكثر من مثابة يعتقدها ستغني ما يكتب وتعطيه مجسات نابهة، لذلك تجده استطال وتداخلت أحداثه وفقا للحالة النفسية وزمكانية النص، لذا من الضروري جدا أن يتخلص الكاتب من نزوعاته وما يتلبسه وقت تدوينه والعمل على تخفيف حدة التوتر الآني من جراء الجهات الضاغطة، ليسكب حرائق لحظة تجمر الكلمات لتزيح المعنى عن مكانه الحقيقي، وتترسب في قاع صفحته همهمات الحدث، التي تشابكت خطوطه والأصوات المتداخلة، التي تحاول أن تنقذ النص من هذه اللحظة المباغتة، كي لا يأخذ النص منحى آخر تتصاعد فيه أنفاسه، وهو يدون أفكاره السريعة ليصب الزيت على مجمر الكلمات، لتتصاعد أبخرة وألسنة اللهب، ويخلف حركة أخرى في دورق النص، كلما سحب شهيقا طويلا ليتأمل ما كتب، حتى يجد نفسه غارقا في تجسيد أوجاعه المتشعبة، سرعان ما تهدأ فورة لحظة الكتابة، متأملا ما نتج بعد خفوت المجمرة، ينتبه لتصاعد دقات القلب وخروجه عن سيطرة التدوين، أخذ يتابع كلماته، جمله، سطوره المتتالية بهدوء ليجد نفسه بين سطر وآخر يدون كلمات أخرى، يمحو، يشطب، يرسم سهما منحيا أعلى سطور الكتابة.
كلما فكّر بالكتابة عن ذاته مغلفا ذلك بأسماء وهمية وشخصيات تخرج من رحم العدم في موسمها المؤجل، لتلقى صدى تلك اللحظات المشبّعة بوحشية السلوكيات تنذر بيوم عصيب، كل هذا وهو يفكر كثيرا في إبعاد تلك الفكرة عن رأسه متذرعاً بحكمة قديمة يلجأ إليها كلما أصابه الذهول والكآبة، ليسترد بها عافيته ويعود يرتب خيوط الحياة.