شعريَّة التجانس النثري

ثقافة 2025/03/26
...

  د. سمير الخليل


تضعنا تجربة الشاعر عمار المسعودي في مجموعته "صيف اسمر" إزاء عوالم فسيحة وتجليات لمضامين ورؤى متعدّدة، يمزج فيها بين الومضات الشعرية والنثر المركّز على وفق كولاج تعبيري يحمل كثيراً من ملامح التجريب الماوراء اجناسي، والبحث عن رؤى وانبثاقات، ويشتبك مع هموم وتوق انساني وينتقل من موضوعه إلى أخرى لتعميق التجلّيات واقتفاء أثر المحمولات الجماليّة والايحائية وينطلق من مغايرته بدءاً من اختيار العنوان الذي يجمع التضاد والتناقض، وعمق الدلالة ويمزج بين المكوّن اللوني والمكون الذي يوحي بالزمنيّة ويكتسب العنوان: "صيف أسمر" أكثر من دلالة وبُعد إحالي، ومن الخصائص أو الظواهر الفنيّة في هذه المجموعة التركيز على الأداء التعبيري في اللغة التي تجمع بين السرد التعبيري والومضات الشعرية. 

فالشاعر يميل إلى انتقاء واختيار المفردة القادرة على الإيحاء وتنفتح على التأويل، وعن طريق هذا الاشتغال فإن الجملة الكولاجية لديه ترتكز على خلق الانزياحات الدلاليّة على مستوى اللغة والصور الشعرية والإحالات وتجلّياتها الإيحائية والرمزيّة، ولا يكتب هذا الكولاج التعبيري على شكل أسطر شعرية مقطعة، بل يعمد إلى جعلها مقطوعات هي أقرب للسرد النثري، لكنّ جوهرها أو ايقاعها الداخلي يتقمّص كثيراً من الشعرية سواء على مستوى خلق الصور الشعرية واستثمار شعرية المفردة أم على مستوى تعميق الأداء التعبيري وايجاد فضاءات مشتركة بين شعرية النثر وشعرية "الشعر". 

وقد تثير هذه التجربة كثيراً من التساؤلات، والتأملاّت وهي تترسّم معالم التجريب وخلط الرؤى، من أجل البحث عن رؤى وفيوضات تنطوي على الاختلاف والمغايرة، وهذه هي مأثرة التجريب فيها، والخروج على المألوف، وكسر السائدية وانطوت كذلك على الإمساك بروح المغامرة الجمالية، واستقصاء مساحات جديدة تحمل كثيراً من الجدّة والتوق والبحث. 

ويمكن استقصاء كثيراً من الظواهر الفنية في هذه التجربة، منها ما يمت بصلة إلى الشكل الفنيّ الجديد، ومنها ما يمّت إلى طبيعة المضمون الشعري والتعبيري الذي تتمركز حوله النصوص، ومن المهم التوكيد على أن الشاعر كان يميل وبشكل قصدي على تفجير الطاقة التعبيرية للغة بأقصى ما يستطيع من أجل خلق الومضات، التي تمثّل جوهر الأداء وتعكس توجهاته، ونجتزئ من نص موسوم بـ(يخلع يدي من على خصره) يقول: "إن كنت في الشجرة فلا تأخذ بيدي المثمرة، قد سبقتك إلى مداناة اليابسة.. قد سميتك على ولايات الثغور البعيدة فلا تجزع لتعثرّ ناجيتك في الفراغ الذي في التسمية، أكرر هذا السهو ولا تسألني عنه.. لا تترك ما يفيض فهذه الكثرة والوفرة ستكون بصالحك، بل اترك ما يفيض فهذه الكثرة والوفرة لم تكن يوماً بصالحك... ليس النجاة أنت، وهذا قاربك قد يسهم في طمعي، الذي يتزاهر من على الماء، لولا عطش مجيد واحد أحاول تذكرّه". (المجموعة: 9). 

ونلاحظ من ظواهر النص أن الشاعر وظّف ضمير المخاطب وحوّل النص إلى خطاب للآخر، وخلق تقابلات بين الذات والآخر واستخدم أسلوباً للقصر مكوناً من (إن) و (لا) وبذلك خلق نوعاً من الومضة في الصراع الداخلي للتضاد. وتكرّر هذا السلوب في المفتتح الثاني إذ يتحوّل النص – كما في معظم النصوص – إلى نوع من الإفضاء الشعري على شكل حوار مع الآخر، إذ يرتكز على أسلوب تقديم السؤال والوصايا والانتباهات، وهو أسلوب يمنح النص كثيراً من احتواء التضاد والتناقض، ويمنحه أيضاً حركيّة تعبيرية داخلية تجعله ينفتح على عوالم كثيرة ومتسعة، ويمهد لانتقالات على مستوى تواتر المضامين والرؤى والثيمات، وهناك أسلوب الاستنكار (ليس النجاة أنت)، وتوظيف النفي لخلق نوع من الصراع بين الذات والآخر، وهو أسلوب يوحي بتقنيّة البحث واستقصاء المعاني وتعدّدية الأفكار، ويصبح النص فضاء لعرض تراتبيّة التأمّل وتكثيف المسافة التعبيرية لخلق فكرة تجمع صورة لصوتين داخل النص، يتصارعان ويتبادلان الرؤى والإحالات.