ملا صدرا الشيرازي في مدرسة النجف

د. عبد الجبار الرفاعي
يجري في المقرر المتعارَف دراستُه في معاهد التعليم الديني اختزالُ الفلسفة في الإسلام بفلسفة ملا صدرا، وشيءٍ من ابن سينا، وشيءٍ من شيخ الإشراق السهروردي المقتول، وغالبًا ما يجري التعرّفُ على بعض أفكارهما عبر ملا صدرا، فيما يغيب بنحوٍ تام أو يشحّ حضورُ تراثٍ فلسفي واسع، أنجزه فلاسفةٌ معروفون. كانت فلسفةُ ملا صدرا وما زالت محورًا للدرس الفلسفي في معاهد التعليم الديني، وتنامت واتسعت دراستُها في نصف القرن الماضي. التقليد المكرّس في هذا الدرس اليوم لا يهتم إلّا بفلسفة ملا صدرا الشيرازي، وتلامذةِ فلسفته. وكأن الفلسفةَ في الاسلام تبدأ وتنتهي بملا صدرا.
يلتقي القارئُ في المجلدات التسعة لكتاب "الأسفار الأربعة" باقتباساتٍ مطولة من آثار الفخر الرازي وغيره، فقد قال بعضُ المحققين إن ملا صدرا نسخ كتابَ: "المباحث المشرقية"، ونصوصًا لابن عربي. ويلتقي القارئُ بكلمات القيصري شارح "فصوص الحكم"، مضافًا إلى نصوص من الكتب الأخرى، وغالبًا لا يشير ملا صدرا إلى ما يقتبسه، حتى اتهمه البعضُ بالانتحال. وذهب آخرون إلى أن ملا صدرا جمع أكثر كتابه الأسفار الأربعة وغيره بنَسْخ مؤلفات غيره، فقد كتب علي أصغر حلبي: "لا تكمن أهمية فيلسوفنا في تأليفه كتابًا ضخمًا بحجم الأسفار، وإنما تكمن أهميته في بيان بضع مسائل بديعة لا يتجاوز بيانها أربعين صفحة، ولو أن هذا الرجل العظيم قد اكتفى بطرح هذه الأفكار في رسالة مختصرة، لكفى نفسه وكفانا مؤونة قراءة موسوعاته".
وكان الميرزا أبو الحسن جلوه (1238- 1314 ه) أول من نبّه على ذلك. أبو الحسن جلوه فيلسوف مشائي من أتباع ابن سينا، والمعروف عنه أنه كان لا يدرّس كتابًا إلا بعد أن يصحّحَه، ويشرحَ غوامضَه، ويحيل على مصادره ومراجعه. كان جلوه يحتفظ بنسخة مخطوطة من الأسفار الأربعة "موجودةٍ في مكتبة مجلس الشورى في طهران. وهي مملوءةٌ بالتعليقات، التي كتبها بين سطورها". نبّه أبو الحسن جلوه إلى المراجع التي نقل عنها ملا صدرا، من دون أن يحيل إليها صاحبُ الأسفار، حتى نسب بعضُ الباحثين الى جلوه أنه ألّف كتابًا، بعنوان: "سرقات ملا صدرا، وأشاروا إلى أنه محفوظ في مكتبة مجلس الشورى. حيث تم استخراج الموارد التي أخذها صدر المتألهين من الآخرين". ولعلها التعليقاتُ المذكورة نفسُها، إذ لم تدرج في آثار جلوه، وهي غير موجودة اليوم في فهارس هذه المكتبة، وربما أخفاها أحدُ عشّاق ملا صدرا.
كما اتهم الآغا ضياء الدين درّي ملا صدرا بانتحال أفكار غيره من دون إشارة. إذ تعرّض إلى هذا الموضوع عند التعريف بملا صدرا في القسم الأخير من ترجمته لكتاب "كنز الحكمة" للشهرزوري، الذي خصَّ به الفلاسفةَ الذين لم يرد ذكرُهم في هذا الكتاب. وهناك صرَّحَ بانتحالات ملا صدرا، وذكر العديدَ من الموارد، فقال بصراحة: "كان صاحب الأسفار يعمد إلى إسقاط بداية النص وخاتمته، وفي أغلب الموارد تكون العبارات منقولة بشكل خاطئ، الأمر الذي كان يوقع الأساتذة المتقدمين في الخطأ في سعيهم إلى توجيه تلك العبارات.. في الكثير من الموارد ينسب مسائل وأجوبة الآخرين إلى نفسه".
حسن حسن زاده آملي، الذي هو أبرزُ المختصين في عصرنا بآثار ملا صدرا، وأوسعُهم اطلاعًا وتتبعًا، والذي قام بتصحيح الأسفار الأربعة والتعليق عليها، يقدّم لنا شهادتَه الصريحة بهذا الشأن، بعد 20 عاما من التدقيق والتحقيق والتدريس لكتاب "الأسفار" وكتب ملا صدرا، وكتابَي الفتوحات والفصوص، ففي كتاب زاده آملي: "العرفان والحكمة المتعالية" وهو بالفارسية، يقول: "إن جميع المباحث الرفيعة والعرشية للأسفار منقولة من الفصوص والفتوحات وبقية الصحف القيّمة والكريمة للشيخ الأكبر وتلاميذه، بلا واسطة أو مع الواسطة... إذا اعتبرنا كتاب الأسفار الكبير مدخلًا أو شرحًا للفصوص والفتوحات فقد نطقنا بالصواب، ولا سيما عندما يذكر: تحقيق عرشي"، وأضاف حسن حسن زاده آملي ما نصه: " كل ما لدى ملا صدرا هو من محيي الدين وقد جلس على مائدته".
وكتب جهانگيري في مقدمة تصحيح رسالة (كسر أصنام الجاهلية) لملا صدرا: "إن جميع المسائل تقريبا، وأكثر العبارات والأحاديث الواردة في هذه الرسالة ــــ إلا في بعض الموارد المعدودة ــــ منقولة عن مؤلفات المتقدمين على عصر صدر المتألهين، وقد نقلها دون الإحالة إلى مصادرها، ويبدو أنه كان يقوم بنقل الأحاديث من ذاكرته ودون الرجوع إلى كتب الحديث. وكان لكتاب (إحياء علوم الدين) للغزالي الحصة الكبرى من الكتب التي اعتمدها صدر المتألهين، وقام بتلخيص موضوعاتها".
وأشار رضا أكبريان ــــ الذي تولى تصحيحَ المجلد التاسع من الأسفار ــــ في هوامش متعددة إلى ذلك، إذ يكتب مثلًا: "إن عبارة المصنف في هذا الشأن قد وردت في كتاب (المباحث المشرقية) مع شيء من التغيير". أو قوله: "إن مسائل هذا الفصل شبيهة بمسائل (المباحث المشرقية)". ومن ثم ذكر موضعَ المصادر الأصلية لتسهلَ على القارئ عمليةُ المقارنة بين هذه الموارد. وفي الحقيقة، إن صدرَ المتألهين قد أخذ هنا ما يقرب من عشرين صفحةً عن الفخر الرازي، دون أن يشيرَ إلى مصدره، مع قيامِهِ بتغيير بعضِ الكلمات والعبارات.
وكذلك أشار جوادي آملي في شرحه على الأسفار إلى هذه الحقيقة، كما في ذلك قوله: "إن بعض أبحاث هذا الفصل متطابقة مع أبحاث الفخر الرازي في (المباحث المشرقية)" ، وهكذا قوله: "لقد ذكر ابنُ سينا برهانَ الصديقين في الفصل التاسع والعشرين من النمط الرابع من (الإشارات والتنبيهات)، وقام المحقّق الطوسي بشرحه، وإنَّ جانبًا من عبارات هذا الفصل من الأسفار هي ذات عبارات شرح الطوسي على الإشارات".
كما نبه أحمد خسروجردي إلى كيفية نقل ملا صدرا عن غيره، بقوله: "لم يقتصر على جملة واحدة أو جملتين، وإنما قد يستغرق أحيانًا صفحة كاملة وحتى أربع صفحات، بل وحتى فصلًا كاملًا أو فصلين من كتب الآخرين، دون أدنى تغيير".
وقال علي رضا ذكاوتي قراگزلو: "هناك فصلٌ كاملٌ في (عشق الظرفاء والفتيان وذوي الأوجه الحسان) منقولٌ بنصِّه عن (رسائل إخوان الصفا) ، فعلى من أراد أن يجري مقارنةً بينهما، أن يقفَ على حقيقة ذلك".
وكتب مهدي حائري يزدي: "المعروف أن صدر المتألهين قد أخذ أجزاء من كتاب الأسفار الأربعة وبعض كتبه الأخرى عن الآخرين دون ذكر أسمائهم. وهذا ما وجدته بنفسي، حيث رأيت اقتباساته عن (المباحث المشرقية) في كتاب (الأسفار الأربعة)، دون أن يشير إلى ذلك".
كما صرّحَ غلام حسين إبراهيمي ديناني قائلا: "إن صدر المتألهين في الكثير من الموارد قد نقل نص عبارات الفلاسفة والمتكلمين والعرفاء الذين سبقوه، دون أن تصدر عنه أدنى إشارة للمصادر التي نقل عنها. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يمكن تبرير صدور هذا الأمر عن مثل هذا الشخص الحكيم والمتألِّه؟".