أثير الهاشمي
يتجلّى حضور الفراشة في قصائد محمود درويش من خلال استحضاره لأفكاره المختلفة، وتصوراته المتنوعة، فمنها ما ينطوي تحت حضور واقعي، وآخر ما يُضفَى في رؤية رمزية، وما بين الحضورين، تكمن لغة درويش، بألفاظها ومضامينها، مُصاغة بوعي تام، عالقة في شعره، ومؤثّرة في المتلقي.
يستحضر درويش لغة (الفراشة) من واقعهِ المُفترض بالأحلام، ومن حلمه المهيمن بالعاطفة، فهو يكتب الشعر على أملِ دلالات تتّضح مرة برمزيتها، وتختفي مرة أخرى بواقعيتها، وهو بين الحالتين يظلّ مفعما بروح الكتابة:
وتركنا طفولتنا للفراشة، حين تركنا
على الدرجات قليلا من الزيت، لكننا
نسينا تحية نعناعنا حولنا، ونسينا.
يربط درويش الطفولة بالفراشة، فالذكرى لديه ماض ٍ غير مؤجّل، والماضي فكرة سائغة المعنى، يُصطفيها بماهية الحاضر، ويشغلها بحلم المستقبل، فهو يأتي بالماضي لمعالجة وقْع الحاضر؛ ليفترض واقعا جديدا، يتماهى معه، تصوّرا وشعرا.
يكمن حضور الفراشة هنا من خلال الطفولة، فالحياة الأولى على رقّتها تشبه الفراشة في نهايتها، لكنه يُضفي بتغيير الأدوار، فيجعل من "الطفولة" مُعادلاً رمزياً "للفراشة"، لا العكس، وهنا تهيمن لغة درويش في تبنّيه للأفكار، وتحويل "الذكرى" إلى "بقاء" و "الغياب" إلى "الحضور"، و"الرمز" إلى "غموض":
أَثر الفراشة..
أَثر الفراشة لا يُرَى
أَثر الفراشة لا يزولُ
هو جاذبيّةُ غامضٍ
يستدرج المعنى، ويرحلُ
حين يتَّضحُ السبيل.
يَعِي درويش ما يقول، فهو يجعل من الوضوح غموضا، ومن الغموض رمزا، ومن ثم يفترضُ غير الممكن ممكنا، من خلال معادلة موضوعية متوازنة، حتى يُضفي بالإنسان مقابلا ومعادلا للفراشة، فلا هذا يزول أثره، ولا الآخر كذلك؛ لذلك يحمّل (الأنا/ الفراشة) عبء الحياة:
في دِمَشْقَ،
يغني المسافر في سرِّه:
لا أَعودُ من الشام
حياً ولا ميتاً
بل سحاباً
يخفِّفُ عبءَ الفراشة
عن روحِيَ الشاردة.
يخلق درويش المُعادل الشعري المُفترض بين (الذات/ الفراشة)، من خلال محنة العودة، وحيرة الجسد، في موتهِ أو حياتهِ، في قبحهِ أو جمالهِ؛ لتبقى الروح شاردة، يُخفّف عنها حضور الفراشة، فيؤنسنها على أمل البقاء:
خضراءُ، أَرضُ قصيدتي خضراءُ. نهرٌ واحدٌ يكفي
لأهمس للفراشة: آهِ، يا أُختي، ونَهْرٌ واحدٌ يكفي لإغواءِ
الأساطير القديمة بالبقاء على جناح الصَّقْر، وَهْوَ يُبَدِّلُ
الراياتِ والقممَ البعيدة.
يُضفي الشاعر روحية "المعنى" برمزية "الألفاظ"، فيخلق صورة جلية، من خلال أنسنة الفراشة؛ ليهمس لها، ويحاورها، من خلال لوحة فنية يكون متفائلا بها، ساعيا بالبقاء، محاولة منه لتجاوز "الخرافة" للوصول إلى "الحقيقة"؛ على جناح الصقر؛ رمزاً للعلوّ، كما جناح الفراشة رمز الرقّة والجمال:
وقد تأتي الحياةُ فجأةً للعازفين عن
المعاني من جناح فراشةٍ عَلِقَتْ
بقافيةٍ، فغنِّي يا إلهتيَ الأَثيرةَ
يا عناةُ، أَنا الطريدةُ والسهامُ.
يصوّر الشاعر معاني الحياة بما أُثير له من مفردات أليفة، فتصطفّ اللغة لديه، برسم خطوطها، وعزف معانيها، من جناح فراشة معلق بقافية من الشعر:
إن رجعتَ إلى البيت، حيّاً، كما ترجع القافيةْ
بلا خَلَلٍ، قُلْ لنفسك: شكراً!
إن توقَّعْتَ شيئاً وخانك حَدْسُك، فاذهبْ غداً
لِترى أَين كُنْتَ، وقُلْ للفراشة: شكرا!
يلوذ درويش بالشعر من الأسى، وبالفراشات من الغياب، فالبقاء لديه مراحل، لا تشبه الرحيل في رؤاه، فالأول يتجلّى في اللغة، والثانية في معنى "الفراشة" وهي تتّقن قيادة "الروح":
في الرحيل تَقودُ الفراشات أَرْواحَنا، في الرَّحيلْ
نتذكَّرُ زر الْقميص الَّذي ضاع منّا، ونَنْسى
تاجَ أَيّامنا، نتذكَّرُ رائحة الْعرق الْمِشْمَشِيِّ، ونَنْسَى
رقْصة الْخيْل في ليْل أَعْراسِنا.
يقدّم درويش اقتصادية اللغة في إيجازه للألفاظ، لقصدية المعنى، فينفخ في روح لغته؛ ليتنفس الرمز تجليات مختلفة، يُفرضها لدى المتلقي، من خلال ثنائيتين متناقضتين (الجسد/ الروح) من جهة، و"الحلم" و"الواقع" من جهة أخرى.
لا شيء يأخذني من فراشات حُلْمي إلى واقعي:
لا الترابُ ولا النار
ماذا سأفعل؟
يستهوي درويش لغة الحلم، على حديث الواقع، فهو يجعل من الحلم فراشات قابلة للذكرى، لا واقع آيل للنسيان، فالفراشة في صيرورتها لديه "وجود من حلم" لا "عدم من واقع"، وهو بين رمزي (التراب/ ذاته) و(النار/ الفراشة) يظلّ حائراً بسؤال عقيم: ماذا سأفعل؟!!
فهل من أجوبة يعي من خلالها حيرته التي صُيّرت بين الرحيل والبقاء، بين الوجود والعدم، بين الخلود والرماد.