أنموذج: اجتياح الاسكندرية

ثقافة 2019/07/15
...

ياسين طه حافظ
 
 
اولاً اخترت نصّاً مترجماً لشاعر فرنسي له قصائد وكتابات، بينها الملحمة او القصيدة الطويلة. هذا النص هو اجتياح الاسكندرية او سقوطها عام 1365. يقع هذا العمل بـ 8900 بيت شعري  ثماني المقاطع ( الدوبيت)، وقد اقحم الشاعر غليوم دي ماخوت في شعره ثلاث رسائل كتبت نثراً... ويقال ان الملحمة جاءت نتيجة اقتراح من شارل الخامس ملك فرنسا والامبراطور شارل الرابع.
طبيعي مهما كان سرد الاحداث دقيقاً لن تظل الحقائق التاريخية ولا احداثها كما رواها الشاعر. بسبب اختيارات الكاتب او بسبب فن الشعر الذي لايترك الحدث بحدود ما كان. فبالنسبة للمؤرخ تواجهه السمات الادبية لهذا العمل بمشكلة فالنص امامه ليس وثيقة ولا خبراً ولكنه نص شعري ولشاعر واسع الشهرة في ميدان الادب انتج سيرة شعرية لتوائم المذاهب الفنية في عصره. وقد تطلب العمل الادبي ان  تكون  الشخصية المركزية اكبر من كونها شخصية حية.
وبغض النظر عن السمات الادبية والفضائل الفنية والمزايا الابداعية، نسأل ماهي قيمة هذه القصيدة التاريخية؟ وهذا سؤال  يمكن الاجابة عنه على مستويات، فهو  قصيدة شعرية، اي نظم وليس نثراً. فهي اذاً تقدم صورة للوسط الثقافي الذي نظمت فيه وشاعرها كبير معروف اي انها تقدم صورة لعقلية الشاعر وجمهوره، لثقافته هو وثقافتهم، وانها ترينا اثر الاحداث التي جرى تدوينها: ملك تولى قيادة حملة صليبية هو بطرس الاول وعدد من الملوك قادوا حملات صليبية كل له اسبابه المعلنة والخفية. 
ليس هذا ما يعنينا فهي، عملاً شعرياً، اقل اهمية تاريخية من اي عمل توثيقي يمكن ان يكتبه معايش او مؤرخ محترم. فما اهميتها الادبية اذا؟
وإن كانت الملحمة مترجمة عن الفرنسية، لا يخفى انها سرد احداث. هي كلام منظوم. وما كانت للشعر في كتابتها فضيلة، فهو يتنقل من زوايا مختلفة وليست مسببه احياناً ولا يكفي ان الاحداث نظمت شعراً ثم لا اظن تلك الاحداث غائبة عن الوسط الثقافي حوله، حتى اذا غابت عن
عوام الناس.
في عمل مثل هذا تُستنطق الاحداث وتستبطن الاجواء لتأتي بالشعر او بالانسانية وراءه او نهيء مدى لتتحرك فيه الدلالة فلا تظل بحجمها ولا 
بحدودها. 
وفي العمل الشعري نكون خلّاقي اجواء وعوالم مما كان خبراً مروياً او حدثاً مرئياً. لكن هذا لم يحدث. وبقى الشاعر ينظم احداثاً واقوالاً جاعلاً من الشاعر فيه مؤرخاً للناس.
ومن ايقاعات الشعر محفزا على قراءة مختلفة للحدث  نفسه وللاقوال نفسها، وقد خسرت دقة المؤرخ وامانة السرد... ولكي لا يظل كلامنا عن بعد، لكم هذه السطور او هذه الابيات :
وهذا الزحف قوي التصميم
ارعب الاتراك كثيراً، الذي دهشوا
لرؤية رجالنا وهم لايخشون المجانيق او المدافع
والمئة الف سهم والحجارة والرمايات
التي قذفوها نحوهم، وزعقت الابواق
وقرعت النقارات والطبول الكبيرة
وترددت اصداؤها، دوت عبر البلدة والبحر
خوفاً ورعباً تسببوا
وزيادة على ذلك ان المسلمين لم يكونوا
في نظام، كانوا متفرقين في الاعلى
وفي الادنى
عبر طريق الجبل،  ركض بعضهم الى الخيول
وبعضهم الى الوادي واحتشدوا  تحت عميقاً
او قوضوا سرادقات وخيما وكأنهم
مغادرون....”
 
كم في هذه المقطوعة من الشعر؟ هي سرد عادي منظوم لكن  يمكن ان نقتبس:
1.  زعقت الابواق وقرعت النقارات والطبول الكبيرة
2. ركض بعضهم الى الخيول وبعضهم الى الوادي
3.  وقوضوا خيماً وسرادقات.
يمكن ان نقول فيما اخترناه شعراً او هي اجواء شعرية. لكنها  محددة بالوصف العادي وقربها الى الكلام واضح، وعموم الصفحات في الكتاب تفتقر الى الشعر الا سطوراً كالتي اخترناها.
يمكن ان تكون لغة النص الفرنسية بليغة والاسلوب رفيعاً يستحق الاعجاب. لكننا اليوم لا نكتفي من الشعر بذلك. لا افكار ولا صور  مهمة ولا جمال وآفاق رموز ودلالات...
هذا يعني، سرد حوادث التاريخ نظما، وكتابتها شعراً لا يجعلها ذات قيمة تاريخية معتمدة، ولا هي ترتفع فنيا لتكون شعراً. 
اظن تأثيرها الفرنسي هو تأثير اسلوب وتأثير آخر يأتي من ارضاء المشاعر الدينية. 
وحتى ان جاوزت ذلك الى المشاعر القومية والوطنية لن ترتفع لتكون فناً 
شعرياً.