باول أوستر.. تأجيل الحُلُم وتأجيل الدّلالة

ثقافة 2019/07/15
...

نصير فليح
يظلُّ الانسان يحبُّ الحكايا، يحبُّ السّرد والقصص، في اشكالها الجنينية البسيطة في حديث عادي عابر يومي، او في اعمال ادبية كبرى. بل انه نفسه يعيش نوعا من السرد، في حياته والعالم من حوله، ثمّة قصص وروايات وحكايا، ووجوده هو نفسه في هذا العالم نوع من قصة، هذا العالم الذي هو اصلا قصة أخرى.
لكن على المستوى الادبي والروائي، كما على مستوى الحياة المعاشة، فان المزاج والرؤية والذائقة، تغيّر في طبيعة هذا السرد وما يريد قوله او يستبطنه. وفي عصرنا، الذي بات الشعور فيه بنسبية الزمان والهوية والحقائق، في عالم ما بعد الحداثة، فإنّ كلّ هذا ينعكس في المبنى الروائي، تماشيا مع رؤية كهذه.
وكثير من هذا نجده في روايات (باول اوستر)Paul Auster(1947-) حيث تظهر الشخصيات وتختفي بطرق غامضة، وحيث يمكن للمؤلف نفسه ان يدخل العمل او يخرج منه كشخصية من شخصياته، وحيث ما يبدأ في مكان محدد ينتهي في أماكن شتى، وحيث الهويات تتداخل، والزمان يتشظى. وكل هذا ممزوج في بناء يعتمد ايضا على رغبة عميقة داخل الانسان، وهي حب التشويق والاثارة، وهو مما يجد مناخا ملائما في السرد البوليسي او الرواية البوليسية.
 
ثلاثية نيويورك
باول اوستر من ابرز الروائيين المعاصرين، ويعد عمله الاكثر ذيوعا (ثلاثية نيويورك) علامة ابرز في هذا المجال، هذا العمل الذي يلعب لعبة متأنية ومفصلة مع موضوع “الهوية” على مدى ثلاثة اجزاء منه. ففي الجزء الاول منه City of Glass ( = مدينة الزجاج) فان الشخصية الرئيسية (دانيال كوين) هو مؤلف يتبنى اسما ادبيا لنشر اعماله هو (وليام ولسون) بوصفه مؤلف قصص بوليسية. و(كوين) هذا شخصية منغلقة تبقي هويتها سرية تماما حتى مع ناشره ووكيل اعماله، ويبدو انه مؤمن شديد بثيمة (موت المؤلف) المعروفة التي تعود الى (رولان بارت)، فهو لا يعد نفسه مؤلفا لما يكتبه، ولا يشعر انه مسؤول عنه. وتستمر الرواية في تعاقبات من تحولات الهوية، التي تتماهى تماما مع النوازع ما بعد الحداثية في بناء العمل السردي المؤسس على تخيّل وفهم العالم اصلا على هذا النحو. ولكن بطريقة مشوّقة تعمد الى جذب القارئ عن طريق ما يختزنه السرد البوليسي من امكانات للشد والجذب في تتابع الاحداث.
ولكن كوين يجد نفسه منخرطا في اعمال المحققين البوليسيين. ويغدو الامر اكثر غرابة عندما يبدأ كوين، (وذلك عندما تصل مساعيه لحل المهمة البوليسية المناطة به الى طرق مسدودة) في البحث عن المؤلف نفسه (باول اوستر)، والعثور على عنوانه في دفتر الهواتف والقيام بزيارته. لكن اوستر، الذي يسر بالزيارة كثيرا، يوضح للشخصية الرئيسية في عمله انه - أي أوستر - كاتب، وليس محققا، ولا يستطيع تقديم مساعدة فعلية له في مهمته.
 
موسيقى الصدفة
في عمله الروائي الاخر (موسيقى الصدفة) يستدعي أوستر التأويلات المجازية أيضا، مركزا كما يبدو بشدة على عبثية الجهد البشري والطبيعة العبثية لوجوده، إذ يمكن ملاحظة  اثار من صاموئيل بيكيت والوجودية الفرنسية. ويمكن رؤية هذا العمل ايضا كنوع من نقد للراسمالية، نقد لما يسمى “الحلم الاميركي”، وهو السردية الكبرى في الحياة الاميركية، وكيف تستعبد العاملين فيها بدهاء.إذ يبدو انها تعرض عليهم التحرر في نقطة ما في المستقبل اذا ما تعاونوا ابان ذلك مع النسق القائم، ولكن المسألة هي ان لحظة التحرر تبدو دائما عرضة للتأجيل. 
القصة تتضمن شخصيتين رئيسيتين، (جم ناش) و(جاك بوزي) اللذين يخسران قدرا كبيرا من المال في لعبة ورق مع اثنين من الاغنياء، (فلور) و(ستون)، ومن ثمّ يُجبران على دفع ما بذمتهما عن طريق العمل في ولاية (ستون) لمدة خمسين يوما لبناء جدار، وهو عمل يبدو رمزا للنشاطات التي لا هدف لها. 
وقبل الوقت المحدد لاطلاق سراحهما بمدة قصيرة يسمح لهما بتنظيم حفلة، مع واحدة من بنات الهوى يتم دعوتها فضلا عن كميات كبيرة من الخمر والطعام الغاليي الثمن، وهما يظنان انّ كل ذلك جزء من استحقاق عملهما. لكن كل كلفة هذا الحدثفضلا عن مصاريف التسوق، تضاف في النهاية الى ما عليهما من دين، مما يؤدي الى تمديد زمن احتجازهما للعمل ثلاثين يوما آخر. وهو ما يؤدي بمعنويات (بوزي) الى الانهيار. ويحاول (ناش) مساعدة بوزي على الهرب، فقط ليكتشف بعدها في الصباح التالي جسد بوزي المضروب بقسوة مرميا خارج مقصورة سكنه. يتم أخذ بوزي الى المستشفى، ولكن لا سجلات في المستشفى تشير الى دخوله هناك، مما يجعل ناش يفترض انه قد مات ببساطة.
وتنتهي الرواية عندما تأتي ساعة اطلاق السراح اخيرا، ويقبل (ناش) الدعوة لجولة في المدينة بالسيارة مع اثنين من موظفي (فلور) و(ستون).وكلاهما مشكوك انّ له يدا في موت (بوزي)، ويقود ناش السيارة بسرعة متزايدة على امل الارتطام وبذلك الانتقام لموت بوزي، رغم توسلاتهما، وفي تلك الحالة من الانطلاق في سرعة متزايدة تنتهي الرواية.
 
تأجيل الحلم وتأجيل الدلالة
من السمات الرئيسية لفكر ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة، هي تشظي الزمان وتداخل الهويات ونسبية الحقائق. وفي تفكيكية جاك دريدا، التي تعد اتجاها رئيسيا في هذا المضمار، فإن دلالة المدلول تتأجل باستمرار في ما يسميه الاختلاف المرجأ différance. فالعلامة المحددة نفسها تحمل في داخلها اثر علامات اخرى، ولا تقود الى مرسى نهائي او مدلول نهائي. وهو ما يمكن تتبع تجلياته في اعمال ادبية شتى تعكس رؤية من هذا النوع للعالم والمعنى.