في الحداثة وما بعدَها

ثقافة 2019/07/16
...

رعـد فاضل
{1}
  كلّ حراك حضاريّ للغرب وأوربا ما هو إلّا صراع عضويّ متواصل مع حراكات سابقة للحداثة، سواء أكان هذا الحراك استكمالاً أو اختراقاً أو تجاوزاً لفلسفات ونظريّات ومفاهيم يراها كلّ حراك حاليّ أو تالٍ بأنّها ما عادت تـفي بمتطلّبات محمولات الحاضر، بسببٍ من التفكير المتواصل بما سيتطلّبه المستقبل أكثر من سواه للتعويل عليه. أمّا عندنا فظلّت النّظرة إلى الحداثة على المستوى العضويّ الواسع نوعاً من القفز على تلادَة التّراث ومقدّساته، وفي أفضل أحوالها ظلّت نظرة تجزيئيّةً تأخذ من الحداثة ما لا يناقض حتّى وإنْ ظاهريّاً سياقيّةَ الثقافة المجتمعيّة العربيّة التي كلّما تقدّم بها الوقت تزداد تمسّكاً بماضيها؛ متماهية معه تماهياً نادراً ما لايكون شبه كليّ، مما جعل هذه السّياقيّة وهذا التّماهي حياة متواصلةً من الارتكاس المُستلِب لحاضر هذه الثقافة ومستقبلها. فإذا كانت الحداثة من وجهة النّظر هذه بعد خمسة قرون تقريباً تعدّ قفزاً والغاءً، فكيف يمكن أن ترى ثقافة الارتكاس هذه إلى فكـر ما بعد الحداثة الذي يتمتّع بالذاتيّة، والتفكيكيّة، والاختلاف، والتعدديّة والغاء الهويّة، وتحطيم المركزيّات، وتقويض التّاريخ 
وعدّه وهماً؟. 
لكن من جهة أدبيّة وفنيّة، وبعيداً عن هذه الرؤية الارتكاسيّة أرى أنّ أيّ تقويض للتّاريخ ما هو عمقيّاً إلّا تجاوز للزمانيّة التي هي العمود الفقريّ لفكر الحداثة ولكلّ حياة تتسم بالمعاصرة، واحلال العشوائيّة بدلاً عن ((الفوضى الخلّاقة))، وما يُعرف بأدب وفنّ (اللايت) الخفيفينِ سهلَي التناول والهضم والشّيوع المرتبطينِ بطلب السّوق الاعلاميّة وعَرضِها، بدلاً عن الأدب والفنّ اللذين يعنيان بفلسفة الوجود
 وأسئلته. 
في هذا الكثير من الشكّ الفلسفيّ واللا منطقيّة النقـديّة إذ كيف يمكن تطبيقيّاً تجاوز التّاريخ، أي الغاء زمانيّة العالم والإنسان والأشياء؟. امبرتو ايكو حاول حلحلة هذا المشكل النظريّ للتاريخ، وذلك بإضفاء نوع من المقبوليّة التطبيقيّة على المفهوم ((جواب ما بعد الحداثة على الحداثة يرتكز على أنّ الماضي يجب أن يُزار وإن بشكل تهكّميّ وغير بريء، طالما لا يمكن أن
 يقوَّض)). 
مع هذا فيما لو قدِّر لما بعد الحداثة وتمكّنت من تقويض التاريخ تطبيقيّاً، فإنّها لن تنتهي إلى الصّمت بوصفه في واحد من معانيه رفضاً، وإنّما ستنتهي إلى ((الفراغ)) كما في نهاية التّاريخ عند فوكوياما، مع هذا ففي الوقت الذي يندفع فيه العالم المتقدّم إلى التّلاحم  اقتصاديّاً ومعرفيّاً على الرّغم من تنوّع شعوبه واختلافها عرقيّاً ولغويّاً وثقافيّاً، تكون فيه الثقافة العربيّة والاسلاميّة مندفعة إلى التّفتت والتّمزّق والتناحر العِرقيّ والدّينيّ والمذهبيّ، وكأنّها لم تقوّض التاريخ حسب وإنّما عاشت وتعيش خارج زمانيّة حركته، أو ما بعد تقويض المنطق التاريخيّ نفسه، إذ كيف يمكن أن يكون المتفرِّق الأوروبيّ والغربيُّ جامعاً وموحِّداً، وفي المقابل يكون الموحَّد العربيُّ عِرقيّاً، والموحَّد الإسلاميُّ دينيّاً عاملَ فرقة وتشرذمٍ، وليس بذي أهميّة حضاريّة نسيجيّة أنّ دولة أو مجموعة من دول عربيّة واسلاميّة قد قطعت أشواطاً من التقدّم التكنولوجيّ والعمرانيّ والخدميّ، لأنّي سأسأل عما هو أهمّ من ذلك: هل قطع العقل الثقافيّ لهذه الدّول ولو بضعةَ أقدام حقيقيّة وجذريّة من التّقدم الثقافيّ والفلسفيّ والسياسيّ والدينيّ والاجتماعيّ... التنويريّ؟. 
هل صار حاضر هذا العقل أكثر حريّة وتفتّحاً وعمقاً وابداعاً، وجعل من البُعد النقديّ لحياته مرتكَزاً لتجاوز كلّ ما من شأنه أن يشدّه إلى الاتّكاليّة والتّبعيّة والذيليّة والارتكاس؟.  
كلّ ما حققته هذه الدّول ليس سوى نتاج العقل الغربيّ والأوروبيّ تخطيطاً وتنفيذاً، وليس لها من هذا كلّه سوى رأس المال، ذلك أنّها لا تزال بالمعنى العميق الواسع للثقافة رعويّةَ النّهج والتّفكير سياسةً وأدباً وفنّاً وتقاليد...، أليس هذا تواصلاً قشريّاً مع الحداثة، وقفزاً إلى ما بعد الحداثة في الوقت نفسه  دون أن تكون لها أصلاً ثقافةٌ فكريّة 
حداثيّةٌ نسيجيّة؟.    
                                                                          
{2»
 صحيح أنّ (القصيدة) هي الأنموذج الأصل  للشّعر العربيّ. ولكن هل صحيح أيضاً أنّ الأنواع الشّعريّة التي ظهرت بعدها (قياساً بها بوصفها الأصلَ) هي أشبه ما تكون بــ (النَّغِـيلة) التي ربما ستظلّ إلى أجل غير مسمّىً في حاجة دائمة إلى نوع من التّأصيل؟.
الشّعر العربيّ يتوفّر على لغة هي من بين أكثر اللغات مجازات وأبعاداً والتباساً وقدرة على المناورة، وقابليّةً على التّفكّك والتّركّب وعلى البروز بأشكال أخرى، وهذا ما جعل شعريّتها متوفّرة على تنوّع الأساليب أو طُرق الأداء، أي أنّها لغة تواصليّة توليديّة، مع هذا أنّ أغلب العقليات الثقافية السّائدة تتصوّر أنّ (القصيدة العربية) لا تزال هي (الشّعر العربيّ) كلّه، ووفقاً لهذا الفهم: ألم تكن قصيدة أبي تمّام نَـغِـيْلةً كونها اشتغلت خارج نمطيّة القصيدة الأصليّة كاسِرةً لها عمودَها، أي قامت بزحزحة أصول بنيتها نفسها؟. 
أليس (الوزن والقافية) يقعان في قشرة نسيج الشّعر؟؛ كما نبّه إلى ذلك الجرجانيّ ((لا يكون هناك كلام شعريّ حتى يكون هناك قصد إلى صورة وصنعة، وليس للوزن مدخل في ذلك)) [دلائل الإعجاز ص 278] و ((الوزن ليس هو ما يجعل الكلام شعراً، بل يمكن للكلام أن يكون شعراً بغير الوزن، فليس بالوزن ما كان الكلام كلاماً ولا به كان كلامٌ خيراً من كلام)) [م. س. ن، ص 364]؟. 
في ظلّ هذا النّظر قد يمكن تصنيف الشّعراء المبدعين العرب القدامى إلى صنفين على المستوى الإشكاليّ، الأوّل: ثورته فنيّة وثقافيّة تقوم ما بين وجوده الشعريّ المُختلف وما بين سياقيّة محيطه وكَلالته وتعوّده على المألوف الدّارج (وهذا ما كان عليه أبو تمّام، والذين مِن طرازه) أمّا الصنف الآخر: فثورته فنيّة وفلسفيّة وفكريّة تقوم ما بين وجوده النّثريّ بوصفه مُفكّراً وعارفاً، وبين شكل القصيدة العربيّة الذي لم يعد مستجيباً لشساعة متطلّبات هذا النّوع من التّفكير والمعرفة، وهذا ما كانت عليه كتابات بعض المتصوّفة كالنّفريّ الذي يعدّ (وإن عند القلّة من النّقاد والمفكّرين، والقرّاء المثقفين) شاعراً حداثيّاً كبيراً في (المواقف والمخاطبات)، وكذلك أبو يزيد البَسطاميّ في (كتاب الشَّطح)، والمعرّيُّ في معظم نصوصه الشّعريّة والنثريّة. الحداثة ليست صناعة ولا منهجاً نهائيين مغلقينِ، إنّها مشروع حياة قبل أن تكون نهجاً فكريّاً وفنيّاً وثقافيّاً، وما العالم بالنسبة إلى الفيلسوف والمفكّر والشّاعر والكاتب الحداثيّ إلّا مخطوطات ممزَّقة في مواضع، ومخرومة في مواضع أخرى وما عليه إلّا أن يُطرِّس هذه التّمزّقات والتّخرُّمات ويحبّرها؛ مالئاً إيّاها بكلّ ما هو استثنائيّ مُبتكَر حرّ وخلّاق. ولكن لتكون رائجاً أي الأكثر شعبويّة ثقافيّاً ومَبيعاً: كن ساخراً ومشوِّقاً ممتعاً منصرفاً إلى المتلقّي لا إلى الناقد والقارئ، تكنْ ما بعد حداثيّ، وهذا يعني: انصرِفْ إلى ((أدب التّسلية والتّرفيه)) [بارت، لذّة النصّ، ترجمة منذر عياشي]، ويبقى السؤال الأبرز: هل تمكّنت ما بعد الحداثة تطبيقيّاً من ردم الفجوة الواسعة ما بين الأدب والفنّ وبين الثقافة الشّعبويّة عبر السّخرية، والنّوستالوجيا أو الأُبابَة، وفلسفة الفوضى واللانظام، وعدّ الآنيّة اللحظيّة مقدّسة دون سواها، إذا لم ننسَ طبعاً أنّ (الثقافة العضويّة المجتمعيّة بخاصّةٍ عندنا) في تراجع متواصل؟.
 وهل خفت بريق ما بعد الحداثة فعلاً لحساب ((ما بعد الاستعمار، وأنّ أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001 سجّلت نهاية ما بعد الحداثة، وتمّ استبدالها في عصرنا الحاليّ بمزيج مصطلحات أخرى مثل العولمة، والجماليّات المعاصرة)) وفقاً لتشخيص  فردريك جيمسون؟