ثمّة نماذج عدّة لتعريف المثقف تجعلنا نقوم بعملية النمذجة حسب المراجع الفكريّة التي وقفت على سؤال المثقف وماهية هذا الكائن ووظائفه أو دوره الإخلاقي والسياسي أو الاجتماعي والمعرفي. وفي هذا الإطار يمكن أن نرجع كل أنموذج للمثقف الى المفكر أو الفيلسوف الذي تناول هذا المفهوم وشَخّصَ حقيقة المثقف على ضوء تاريخه المُعاش والمعطيات السياسية والاجتماعية أو الاقتصادية والثقافية السائدة في زمنه. وهنا يمكن الإشارة الى التعاريف التي نجدها لدى كل من جوليان بيندا، و جان بول سارتر، و غرامشي، و ميشل فوكو، و ادوارد سعيد.
ففي المفهوم البيندايي، أي جوليان بيندا (1867-1956م) للمثقف نجد أن المثقفين هم عُصبة صغيرة من الملوك- الفلاسفة الذين يتحلّون بالموهبة الاستثنائية وبالحس الأخلاقي الفذ ويشكّلون ضمير البشرية. انهم من أمثال يسوع المسيح وسقراط وسبينوزا وفولتير ونيتشه و ارنست رينان.. يعرضون حياتهم لمخاطر الصلب والحرق والنبذ والملاحقة والمحاكمة.
أما المفهوم الغرامشوي، فهو يتمثل في “أن المثقفين ينقسمون الى قسمين بحسب رأيه: المثقفين التقليديين مثل المعلمين ورجال الدين والإداريين ممن يواصلون اداء العمل نفسه من جيل الى جيل.. والمثقفين العضويين المرتبطين مباشرة بطبقات أو بمؤسسات تستخدم المثقفين لتنظيم المصالح واكتساب المزيد من القوة وزيادة السيطرة.
والمفهوم السارتري، يفيد بأنّ “المثقف هو ذلك الكائن الذي يتدخل فيما لايعنيه. وثمّة نوعان من المثقف كا يذهب اليه هو، الأول هو المثقف الحقيقي والثاني هو المثقف المزيّف، المثقف الحقيقي هو من يقول كلمة (لا) ولكن المثقف المزيّف هو من يقول (لا ولكن)!، أي يبرر ما لا يحتمل إلّا النقد والمعارضة. وبمعنى آخر، ان المثقف الحقيقي هو من يدافع عن الحريات ويغيّر الواقع السائد، إنّه الكائن الذي يصر على قول الحقيقة، بينما المثقف المزيّف هو من يدافع عن الوقائع بذرائع شتى لاتصمد أيٌّ منها أمام مطرقة النقد لهذا الواقع. أما المفهوم الإدواردي، نسبة الى المفكر العربي الأميركي، إدوارد سعيد (1935-3-20م)، فيتمثل في أن هذا الكائن هو الشخص الذي يتحلّى بقدرة خاصة في تجسيد هموم شعبه وإيصال رسالته ومواقفه وتوجهاته للناس. كما أنه رمز المعارضة والجراءة والتحدي ومواجهة الوضع القائم الذي لايتجاوب مع مبادئ الحرية والعدل.. فهو الإنسان الذي لايجامل ويراهن بشعوره النقدي على وجوده كله ولا يقبل بالإملاءات والأفكار المبتذلة والجاهزة ولا يرتبط بشريحة أو مؤسسة أو حزب أو حتى قوميته وإنّما هو وعي حر في العالم ولا منتمٍ. والمفهوم الفوكوي للمثقف، هو أنّه الكائن الذي يُسائل ويفحص المسلّمات والمصادرات، وذلك عبر التحاليل التي يجريها ضمن حقله الاختصاصي. إنّه من يزعزع العادات وطرق العمل والتفكير والأشياء المألوفة والمسلّم بها، ولكنّه لا يلعب دور الوصي على الناس ويحدد لهم ما ينبغي فعله. فالمثقف ليس هو من يكوّن الإرادة السياسية للناس. كما لا ينبغي أن يحكم ولا يدعي أنّه ضمير الأمة، أو لسان حال الجمهور .. وانما يختص في مجال من مجالات إنتاج المعرفة.
أما ملاحظاتنا بشأن هذه النماذج فهي كالآتي:
1 - هناك وجوه التشابه والتباين في التعريفات التي ذكرناها، لذا لايمكن أن نعتمد على مفهوم واحد عند ذكر مفهوم المثقف، وهذا بحد ذاته إشكالية كبيرة تفتح المجال أمام السجال وغياب الإجماع حول ماهية هذا الكائن.
2 - عدا تلك التعريفات، ثمة الكثير من التعريفات الأخرى للمثقف وهناك مؤلفات لمجموعة أخرى من الفلاسفة المعروفين على المستوى العالمي تتناول مفهوم المثقف نفسه وقضاياه: مثل ريمون ارون، جان فرانسوا لويتار، رجيس دوبريه، وفي العالم العربي: علي حرب، وهشام شرابي، وجورج طرابيشي، وعبدالإله بلقزيز، ومحمد الشيخ، ونديم البيطار...
الخ..
3 - تعدد المفاهيم والتعريفات يُبقي الجدل مفتوحاً عن مكامن الأدوار المجتمعية التي يجب ان يلعبها هذا الكائن في الحياة العامة، ولاسيما في الموقف من الأحداث التي تتعلق بمصالح الأمة والدولة.
4 -كثرة المفاهيم المطروحة حول ماهية المثقف تفسح المجال لأن يدعي الكثير من أصحاب الأقلام والعاملين في حقل الإنتاج الرمزي، بأنه يحمل قيم المثقف وجدير بهويته، وهذا وحده يحول صراع هذه الفئة على المراكز الاجتماعية واحتكار الحقيقة الى صراع داخلي قائم على نفي مشروعية الحديث باسم المثقف أو التأكيد على هذه
المشروعية.