المفهوم القانوني للجريمة السياسيَّة
العراق
2019/07/22
+A
-A
القاضي ناصر عمران الموسوي
يشكل مفهوم {الجريمة السياسية} مشكلاً قانونياً معقداً، كونه يرتكز على ثنائية متفتقة على الكثير من الرؤى والمفاهيم القانونية، اضافة الى ارتباطاته المعقدة بطبيعة النظام السياسي للدولة لذلك استعصى على الفقه والقضاء إيجاد تعريف محدد لها، وتخلت معظم الدول عن وضع تعريف لها في تشريعاتها الداخلية (الوطنية)
وترجع الصعوبة في تحديد المفهوم أساساً إلى الطبيعة المعقدة للجريمة السياسية في حد ذاتها واختلاف رؤية الدول في معالجة هذا النوع من الجرائم حسب طبيعة نظامها السياسي، اضافة الى الاختلاف في تعريف محدد جامع مانع للجريمة يضاف الى ذلك اقتران الجريمة بالسياسة والسياسة كمفهوم مختلف عليه ومرتبط بستراتيجيات ورؤى للأنظمة الحاكمة وبما انه رؤية مرتبطة بالقابضين على السلطة، فهو مفهوم غير مستقر.
الامر الذي يتعارض مع اساس الثبات والاستقرار التي تتميز به القاعدة القانونية الجزائية والإجرام السياسي في مفهومه العام جرم ينتهك مرتكبه التشريع الجنائي ويتميز بطبيعة خاصة عن الاجرام العادي وبنظرة اجتماعية فيها الكثير من التعاطف والمسامحة وهو ليس وليد المرحلة الحاضرة التي تمارس فيها السياسة كرؤى ومنهاج ونظام حكم ومعارضة وانما هو جرم متجذر القدم في تاريخ البشرية فقد كان مرتكبه يتلقى اشد العقوبات واقساها، فيغدو عدوا للمجتمع، لأنه يعمل على تغيير نظام المجتمع وتبديل قواعده السياسية أو
الاجتماعية.
ولما كان الرئيس أو الملك في المجتمعات القديمة هو رأس الدولة وممثلها، فقد كان المجرم السياسي عدواً شخصياً له ولدولته. ارتبط مفهوم الاجرام السياسي بالثورة الفرنسية التي اعتبرت دعوتها إلى مناهضة الحكم المطلق والنظم الاستبدادية في أوروبا نقطة تحول جوهرية بالنسبة لعلاقة الشعوب بنظمها السياسية، فالدوافع لارتكاب الإجرام السياسي قد تكون التدخل في سياسات الدول تجاه غيرها ما يؤثر في قدرات الدولة و يؤدي
لإضعافها.
ومن الجرائم السياسية: الاعتداء على أمن الدولة ، كالتآمر لتغيير نظام الحكم، أو العمل على تغيير الدستور، وجرائم المطبوعات (جرائم الرأي) والصحافة التي تتعرض للحقوق السياسية وكجرائم الغش في الانتخابات مثلاً. الرأي الغالب في الفقه الجنائي المعاصر يميل إلى إخراج الجرائم الواقعة على أمن الدولة الخارجي من طائفة الجرائم السياسية كجرائم الخيانة والتجسس والتآمر مع العدو. وتصنيف الجرائم إلى سياسية وأخرى عادية هو تصنيف يهدف إلى معاملة المجرم السياسي معاملة خاصة ، باعتبار الجريمة السياسية تنطبق فقط على الآراء والأفكار والمعتقدات التي تشكل منهجا فكريا معينا يتفق أو يتعارض مع فكر السلطة، وينطبق أيضا على الأنشطة المحظورة أو الترويج لفكر سياسي محظور، عن طريق الخطابة أو المنشورات أو الملصقات أو أي وسيلة أخرى ولا يستخدم فيها العنف أو التحريض عليه.
فالجريمة لم ترتكب بدافع إجرامي بحت، وإنما لهدف سياسي ومن باعث سياسي أيضا. لذلك استقر الاتجاه العالمي على استثناء عقوبة الإعدام في الجرائم السياسية أي عدم تطبيقها على المجرمين السياسيين، وكذلك عدم تعريضهم للعقوبات التي تترافق مع أشغال شاقة أو الحبس مع الشغل في السجون في البلدان التي تطبق عقوبة الاشغال الشاقة مع الحبس .
والجريمة السياسية تتميز عن الجريمة الارهابية من خلال الضحايا ففي حالة الجريمة الإرهابية يكون الضحايا غير محددين بذواتهم في أحيان كثيرة ما يسهم في خلق شعور عام بالخطر و يؤدي إلى إثارة الرعب في المجتمع، بينما في الجريمة السياسية لا يقع ضرر مادي على ناس من المجتمع، كما ينعدم فيها الإحساس بالخطر العام وليس لها ضحايا لأنها تتعلق غالباً بإبداء رأي مخالف لما هو منصوص عليه في القوانين الداخلية للدول. وعلى هذا الأساس منح القانون الدولي من يرتكب هذه الأفعال ويكون مطارداً من السلطات المحلية حق اللجوء السياسي، بينما حرم هذا الحق على المجرم الإرهابي، هذا ولا يعتبر القانون الدولي الجريمة الإرهابية جريمة سياسية بأي حال من الأحوال.
وقد انقسم الفقه في رؤيته للجريمة السياسية إلى ثلاثة اتجاهات، اتجاه أول يعتمد المعيار الموضوعي، واتجاه ثان يأخذ بالمعيار الشخصي، والثالث يجمع بين المعيارين الشخصي والموضوعي (المذهب المزدوج) وهو المعيار الذي اعتمده قانون العقوبات العراقي في النص على الجريمة السياسية في الفصل الأول من الباب الثاني تحت عنوان الجرائم من حيث طبيعتها فقد نص في المـادة ( 20) على تقسيم الجرائم من حيث طبيعتها إلى عادية وسياسية وفي المـادة (21 /أ ) منه اعتبر الجريمة السياسية هي الجريمة التي ترتكب بباعث سياسي أو تقع على الحقوق السياسية العامة أو الفردية وفيما عدا ذلك تعتبر الجريمة عادية ومع ذلك لا تعتبر الجرائم التالية سياسية و لو كانت قد ارتكبت بباعث سياسي: 1- الجرائم التي ترتكب بباعث أناني دنيء. 2. الجرائم الماسة بأمن الدولة الخارجي. 3. جرائم القتل العمد والشروع فيها. 4. جريمة الاعتداء على حياة رئيس الدولة. كما الزمت الفقرة (ب) من المادة المذكورة المحكمة إذا رأت أن الجريمة سياسية أن تبين ذلك في حكمها.
وعلى ضوء ذلك تطبق المـادة (22 ) والتي تنص احكامها على تخفيف العقوبة الواردة في النص لمصلحة المجرم السياسي فقد نصت الفقرة 1. يحل السجن المؤبد محل الإعدام في الجرائم السياسية. في حين لم تعتبر الفقرة 2 العقوبة المحكوم بها في جريمة سياسية سابقة في العود ولا تستتبع الحرمان من الحقوق والمزايا المدنية ولا حرمان المحكوم عليه من إدارة أمواله أو التصرف فيها. وتبرز هناك صعوبات في تحديد الاجرام السياسي من خلال العمل التطبيقي القضائي فعدم تحديد دقيق لمفهوم الاجرام السياسي يشكل صعوبة في تحديد طبيعة الجريمة سواء أكانت سياسية ام عادية بالرغم من ان التشريعات الدولية تضمنت تحديدا لمفهوم الاجرام السياسي فقد نص المؤتمر السادس لتوحيد القانون الجنائي في كوبن هاغن سنة 1935 على وضع تعريف للجريمة السياسية تبناه جميع أعضاء المؤتمر حدد فيما
يلي:
“الجرائم السياسية هي جرائم موجهة ضد تنظيم الدولة وسيرها، وكذلك الجرائم الموجهة ضد حقوق المواطن التي تشتق منها. وهي ما يطلق عليها اسم (الجرائم السياسية البحتة) وقد تعرض هذا التعريف لانتقادات كثيرة في حينه ، كما أصدرت لجنة حقوق الإنسان التابعة لهيئة الأمم المتحدة في دورتها لسنة 1938، تعريفا للمجرم السياسي بكونه: “الشخص الذي يبحث سلميا عن ممارسة أو تطوير حقوقه في حرية التفكير والرأي والتعبير، وكذا في تكوين الجمعيات والتجمعات وحق المشاركة في القضايا العامة”. ان عدم تحديد مفهوم للإجرام السياسي جعل تعريف الجريمة السياسية غير مستقر وثابت ومرتبط برؤية سياسية داخلية محكومة بظروف مرحلية زمانية ومكانية ليست بعيدة في مرحلتنا الحالية عن تأثير التشريعات الدولية ومعايير حقوق
الانسان .