لكل مرحلة من المراحل السياسية والاجتماعية والحقب السلطوية ثقافتها وخطابها ومهامها مهما حاول خطاب المراحل السابقة أو ثقافتها استدامة حضوره سيما وإن الانعطافات الكبرى تمثل عملية هدم وربما محاولة قلع، للمنظومة القائمة في الوقت التي تظهر فيه ملامح منظومة جديدة يفترض انها مغايرة، تعمل على أن تحل محل السابقة بالرغم مما يصاحب ذلك الحلول من ارتباكات وتحولات جزئية يمليها ضغط انعطافة التحوّل الأكبر وتمظهراته الاجتماعية والاقتصادية على الواقع العام.
تبقى العلاقة بين الثقافة والدولة علاقة عضوية مترابطة فالدولة هي الحاضنة الكبرى للثقافة وديمومتها الانسانية الخلاقة المتجددة. تماما بالقدر الذي تؤثر فيه الثقافة على نوعية المسار التاريخي للدولة ومكانتها. ومع انه لا يوجد قانون صارم قادر على تحديد هذه النسبة المتبادلة بين الاثنين، إلا أن مما لا شك فيه، أن الثقافة هي الوجه "الروحي" للدولة كما نراه في الكثير من الدول والبلدان المتطورة، فكلما كانت الدولة أكثر شرعية وانفتاحا واحتراما للإنسان وحقوقه والمصالح العامة والمواطنة كلما كانت الثقافة أكثر إبداعا وانتعاشا وتأثيرا وخلودا.
بعد التغيير النيساني 2003 والحلم ببناء وصناعة ثقافة متراصة مستندة على اسس الدولة وليس السلطة كما كان، فقدنا الامل رويدا رويدا وتحولت الثقافة الى مشاريع فردية وليس حركة اجتماعية منهجية يقوم بها مجتمع برمته يسهم بصناعة مجمل التحولات والتغيرات. الثقافة في ظل النظام السابق لم تهمش بالمعنى الحرفي فقط، بل وظفت كي تغطي، وتبرر، السياسات الرعناء المتبعة من قبل السلطة طوال عقود عدة، كالحروب والقمع ومصادرة الحريات وفرض الرأي الواحد وشراء ذمم المثقفين ببضع دنانير إن كان جراء الكتابة في الصحف والمجلات ومدح السلطة او للعمل كرقيب على الادباء في المهرجانات والجلسات وكتابة التقارير حول مايدور فيها.
اما اليوم، فالثقافة ليست باحسن حال من المرحلة التي سبقتها وغير موظفة في مهامها انما مهمشة ومحتقرة اذ صح القول، وتكالبت عليها مجمل العقليات الشائعة والمتحكمة في هذه المرحلة اذ عملت على حذف الثقافة باعتبارها حاجة انسانية ضمن صيرورة المجتمع بل ان بعض التيارات النافذة اجتماعيا وسياسيا وسلطويا اخذت بمحاربة الثقافة كاداة تنوير مجتمعية. لهذا فالحياة اليومية في العراق قد تكون عرجاء، وجافة، لا ترطبها رياح الفن والثقافة مع وجود كم من نشاطات يومية لعدة مؤسسات ثقافية حكومية ونقابية ومنظمات مجمتع مدني وفعاليات لدور الطباعة والنشر الا أنها لا ترتقي الى مستوى الثقل التاريخي للثقافة العراقية ودورها المحوري في حياة الفرد والمجمتع وتأثيرها بهما بل حتى النظرة للمثقف تغيرت كثيرا عما كانت عليه في فترات سابقة وهنا اقصد مجتمعيا.
تلك النشاطات وللاسف عادة ما تكون نخبوية مقتصرة على جمع معين من الاصدقاء والمعارف، يقيمها ويحضرها اصحاب الشأن فقط، غيرة متفاعلة بشكل عضوي مع الواقع المعاش، فالهم الانساني للفرد في واد وتلك النشاطات في واد آخر. أين المسارح التي تفتح ابوابها بشكل يومي لجمهور، وأين حفلات الرقص والغناء والموسيقى، أين المعارض التشكيلية االجامعة لكل فناني الوطن، وأين المهرجانات التي تعتني بالثقافة وليس هذا الجنس الادبي وذاك؟