رايموند ويليامز ومستقبل الدرس الثقافي

ثقافة 2019/07/22
...

د. نادية هناوي
من الموضوعات التي تعنى الدراسات المستقبلية بتحليلها وغربلتها مثلا لا حصرا الحوسبة والانسانية الفائقة والأمن السايبري والاستنساخ الجيني والمراقبة البايومترية وغيرها كثير، لكننا إذا كنا نتحدث في حقل محدد كالدرس الثقافي؛ فإن طروحات القادم الثقافي وكيانه السنتمتري ستدور في حيز ذي أبعاد فكرية ومثابات هي أولويات عند الجهات المعنية بها، كهيئات البحث الجامعية والمؤسسات ذات التوجهات المتطلعة للتغيير الثقافي.
وما دامت الثقافة ميدانا حياتيا؛ فإن غايات الغد الثقافي أو ثقافة الغد ستتجسد في الارهاص بما هو جديد قادر على قلب الراهن الحالي والمعيش السائد نحو الافضل. 
ولا بد من القول إن الحديث عن مستقبل الدرس الثقافي لم يكن مطروحا للنقاش قبل ثلاثين عاما أو اقل، بيد أن التطور الذي تشهده الثقافة اليوم في ظل حقبة ما بعد الكولونيالية اقتضى ايلاء هذه الدرس الاهتمام الذي يناسبه انفتاحا على مختلف صعد الحياة.
ولعل خطورة ثقافة الغد تتضح من زاويتين الاولى أنها تؤشر إلى ستراتيجيات عملية وبرامج تنموية لا بد أن نوليها ما تستحق ونوفر لها العقول الشغوفة التي تستطيع أن تبلور لنا المستقبل الثقافي القادم. وتتمثل الزاوية الثانية في الالمام بصورة مستقبلية لثقافة فاعلة المديات ودائمة التجدد بعيدة عن التخمينات العمياء والتهويمات الجوفاء.
 ويعد رايموند ويليامز في مقدمة المعنيين بمستقبل الدرس الثقافي، وقد أتبع خطاه وسار على هدي طروحاته نقاد ومفكرون كثر، وهو القائل:" إنك لا تستطيع فهم مشروع ثقافي أو فني دون أن تفهم تشكيله أيضا". 
وهذا الحقل المعرفي عند ويليامز هو مشروع يكمل معطيات ما يقدمه الفن للمجتمع، والتكميل يعني اتمام أمر ليس للفن أن يتمه لوحده، فقد يوجه الفنان رسالته لنفر دون نفر أو يغلب فئة دون أخرى أو يخاطب ذهنيات دون غيرها لتبزغ الدراسة المستقبلية، وقد أنارت للفنان مسارات تجعله يلقي بالًا لما قد همشه أو تمادى في إشاحة نظره عنه، وقد تأتي أهمية الدراسات الثقافية من اهتمامها بالمقموعين الذين لهم في عالم القراءة والأدب حصة مهمة لا يستهان بها.ولا يذهب الظن أنَّ المكان الطبيعي لهذا اللون من الدراسات يكمن داخل الرواق الاكاديمي فقط، فذلك ما يحذر منه ويليامز ويراه سببا في التحجر والتنميط، وقد يبدو هذا الرأي غريبا فكيف تصبح الدراسات المستقبلية التي تحتضنها المؤسسة الاكاديمية معتادة 
وجامدة ؟!
ان تحذير ويليامز نابع من أن المؤسسة الاكاديمية تميل دوما إلى التقعيد والتأسيس و"إعادة إنتاج ذاتها .. إنها تعيد إنتاج المعلمين والممتحنين الذين يعيدون انتاج الناس على غرار انفسهم" (كتابه طرائق الحداثة ضد المتوائمين الجدد،  ص208)
ومن ثم يغدو أي مشروع بحثي مرفوضا في العرف الاكاديمي إذا ما تخلى عن التقعيد وسار على ما هو سائد، حتى أنها قد تهمش أولئك الذين يدعمون هكذا مشروع مهما كانت مراتبهم العلمية وألقابهم البحثية، ولهذا ينص ويليامز ( أن التجديد في الدراسة الادبية إنما يحدث دائما خارج المؤسسات التعليمية الرسمية)   
 وإذ نتحفظ في موافقتنا ويليامز على هذا التحذير؛ فإننا نلمس أن الاكاديمية ـ وبسبب نزعتها العلمية القائمة على صرامة المنطق والقياس والتنميط والاتباع ـ قد تتحول فيها المرونة بالتدريج الى تحجر كما قد ينقلب الاحتراف إلى تمدرس وتنميط، وهذا ما ينبغي أن يحذره الاكاديمي كي يتحرر من القيود الدغماطية ويتطلع إلى التجديد. وهكذا ستولد في مستقبل ثقافتنا فواعل تناضل من أجل الخروج من شرنقة التنميط لتكون لها أجنحتها الخاصة التي بها ستحلق على مشارف الدرس الاكاديمي وقد تنبأت بمآلات المستقبل الثقافي.
وقد تتضبب رؤية الراهن الثقافي إلى درجة الغشاوة، بيد أنه كلما كان الاصرار على رؤية ما هو راهني قويا وراسخا، فإنه سيؤتي أكله مستقبلا، وبهذا نضمن لعجلة الثقافة أن تظل في دورية دينامية لا تعرف تقوقعا أو تذبذبا.
وقد تنبأ ويليامز أن الدرس الثقافي سيصبح ذا مستقبل مرموق أن نحن انتقلنا (من أقصى الضغوط ذات الطابع الشخصي إلى أقصى الضغوط ذات الطابع السياسي العريض. واذا كنا مستعدين ان نحمل على كواهلنا هذا اللون من العمل وأن نراجع مناهجنا ومقرراتنا الدراسية) 
ويضع ادموند ويليامز بعضا من المفاهيم لمستقبل الدراسة الثقافية، منها :
1) مفهوم النمط pattern  الذي هو ببساطة الأنساق التي نريد انتهاجها والطرز أو الضروب التي نتطلع إلى بلوغها والسير عليها وبالشكل الذي يسمح بإعطاء صور ثقافية وليدة لكنها مفيدة وراسخة.
2) مفهوم استعادة الفـــورم form أو الطابع الاجتـماعي الـذي فيه تـتحدد بنـية الشـعور structure of feeling وبما يجعل الوعي مؤهلا لأن يكون قويا ومحددا مثلما يوحي به مصطلح البنية.
3) مفهوم الإدارة الثقافية التي ينبغي أن يكون نظامها في المقاولة نظاما حرا حيويا، ليس فيه مستهلكون فضلا عن ضرورة أن يكون بعيدا عن الدعاية .
4) مفهوم رأس المال الرمزي والمشاع في صناعة الثقافة ومفهوم البديل الثقافي والطريقة التي بها نصنع البدائل التي تحسِّن الانتقاء الثقافي، فنعرف ما الجيد من الكتب التي ينبغي أن نوفرها لطلابنا مثلا وكيف نختار للشباب ما يقرأونه وكيف نصنع ثقافة المستقبل، واصلين إلى ثقافة تنويرية لا خداع فيها ومن دون توهم أو كذب.
وبهذه المفاهيم وغيرها يصبح مستقبل الدراسة الثقافية منوطًا بمديات الرؤية للبعيد، مع تهيئة العدة لذلك القادم الثقافي، عارفين ما علينا فعله لنقوم به كي نبلغ ما نريد مدركين امكانياتنا في جعل استراتيجياتنا قابلة للتطبيق وفاعلة في الاجراء.
وعلى الرغم من محاولة رايموند ويليامز صنع جهاز مفهوماتي لمستقبل الدراسة الثقافية؛ بيد أنه على مستوى تحليل الثقافة لا يعدم أن يجعل البنية الثقافية الحالية عاملة في أحد جوانبها، مع ثقافة الحقبة كنتيجة عيش العناصر كلها في التنظيم العام.