بعد 47 عاما على رحيله لا يزال غسان كنفاني ملهما بطرق متعددة للمهتمين بسردية الشعب الفلسطيني من خلال منجزه الغزير في الرواية والقصة القصيرة والمسرح والفن والمقالات والخطب السياسية وحتى آرائه النقدية في الأدب. فقد كتب كنفاني ملحمة الشعب الفلسطيني المعاصرة بدءا من النكبة والهجرة والمقاومة والاغتراب وحتى حلم العودة، وشكلت أعماله القصصية “سردية الشعب الفلسطيني”. وحضر كنفاني النكبة طفلا وعاش معاناتها التي رسخت مبدأ المقاومة في أدبه، وكتب عنها وعن سلسلة المآسي التي تلتها ليصبح أديب الهجرة واللجوء الفلسطينيين بامتياز، ومع ذلك رفض أن يمتلئ الأدب بالسلاح وخطب الشعارات، وقال “أن تكتب قصة قصيرة ناجحة فهذا أدب مقاوم”.
وبخلاف أعماله الأدبية ونشاطه السياسي كان كنفاني ناقدا أدبيا، فقد كتب عام 1966 دراسة بعنوان “أدب المقاومة في فلسطين المحتلة 1948-1966”، وتناول الإنتاج الأدبي الفلسطيني بعد النكبة، والبطل العربي بين الأدب العربي والرواية الصهيونية، وعرض نماذج من الشعر الفلسطيني.
وألف كنفاني أيضا كتاب “الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948-1968” الذي نظّر فيه للتكامل بين المقاومة المسلحة والمقاومة الأدبية، معتبرا أن الشكل الثقافي للمقاومة مهم كالمقاومة المسلحة ذاتها.
كانت أعمال كنفاني الإبداعية تدور في فلك القضية الفلسطينية، وكان موطنه الفلسطيني حاضرا بقوة في قصة شخصياته الأدبية، خاصة “عائد إلى حيفا” التي تجسد رغبة سعيد وزوجته في العودة إلى بيتهما الذي تركاه وفيه طفل صغير بزمن النكبة. ورغم تناول القصة في عملين سينمائيين حصدا جوائز عالمية ومرور نصف قرن على نشرها للمرة الأولى فإن الرواية لا تزال تعتبر واحدة من أهم كلاسيكيات الأدب الفلسطيني التي تجسد مفهوم الوطنية وقسوة الظروف عبر تراجيديا سعيد وعائلته. ولا يزال مؤلف “عائد إلى حيفا” محور الحكاية والرواية الفلسطينية ومصدر الإلهام للأدباء المعاصرين، وأرخ كنفاني أيضا للاجئ الفلسطيني ومزج في “أرض البرتقال الحزين” بين معاناة اللاجئ الفلسطيني وسيرته الذاتية. وفي ذكرى اغتياله تطوف اقتباساته مواقع التواصل الاجتماعي لتعبر عن راهنية كنفاني الأديب والمفكر الذي رحل عن عالمنا قبل أن يكمل ثلاثا من رواياته، هي “العاشق”، و”الأعمى والأطرش”، و”برقوق نيسان” والتي نشرت بالفعل بعد استشهاده غير مكتملة. وترك كنفاني وراءه زوجته الدانماركية التي انضمت للمناضلين من أجل فلسطين، وطفليه فايز وليلى، إضافة إلى رصيد من الأعمال الأدبية ترجم بعضها إلى لغات أجنبية، منها “رجال في الشمس”.
في مقابلة لإحدى القنوات التلفزيونية الأوروبية ترتفع حدّة المواجهة مع الصحافي القادم بأجندة مباشرة موجّهة وسامة في آنٍ معاً: “لماذا لا تدخل منظمتكم في محادثات سلام مع الإسرائيليين؟”. يهدأ كنفاني مصحّحاً السؤال وبشكل دقيق: “أنت تقصد تحديداً اتفاقية استسلام؟”. هنا يعيد المراسل هجومه بشكلٍ آخر محاولاً تصوير الفلسطينيين “الهمجيين المتوحشين” الذين يرفضون حتى مجرد “الحديث/الحوار” مع الإسرائيلي “الراغب في الحوار والاتفاق”. يرد كنفاني بسؤال: «مع من؟» ليؤكد المراسل: “مع القادة الإسرائيليين”. هنا يلجأ كنفاني لحرفته كصانعٍ للإبداع: “هذا نوع من الحوار بين السيف والرقبة، تقصد؟”. يسأل المراسل هارباً: “لماذا لا تتحدثون عن إمكانية ألا تتقاتلوا؟”.. إنها خلاصة أسئلة المراسل وما يريد إيصاله للجمهور الغربي حول “القتلة” الفلسطينيين الذين لايريدون شيئاً سوى قتل الصهاينة “الأبرياء”؛ من دون حتى إعطائهم فرصة لتبرير ما فعلوه. يعود كنفاني لهجومه الذكي: “نقاتل من أجل ماذا؟”، فيجيب المراسل: ألّا تقاتلوا أبداً، لا يهم من أجل ماذا.
يحشره كنفاني في الزاوية، مؤكداً: “الناس يتقاتلون من أجل شيء ويتوقفون عن القتال لأجل شيءٍ أيضاً، لكنك لا تستطيع إخباري لأجل ماذا علينا أن نتوقف عن القتال؟». ويؤكد أن الموت لأجل الكرامة هو أصل هذه المعركة، وأن “كرامة” العربي الفلسطيني هي أصل الشيء؛ وأنه دونها «لا نستحق الحياة».
غسان كقاص قامة إبداعية كبيرة، لا تقلّ طولاً عن قامته الروائية. كان غسان واحدًا من أعظم من كتب القصة القصيرة في العالم العربي والعالم، ورغم أن غسان من أكثر الكتّاب الفلسطينيين والعرب الذين حظيت أعمالهم بالدراسة، والاحتفاء اللذان لا ينافسه فيهما أي كاتب؛ كما حظي بتجدد الاهتمام بأدبه بين الأجيال، إلا أن منجزه النوعي المتعدد، ظلّ، بعيداً عن الدراسات الكبرى التي تتناوله وتعيد قراءته، إلا في حالات قليلة. ولعل كتابات غسان بحاجة دائمًا إلى إعادة قراءتها نقديا، لأنها كتابات تتجدد في كل حقبة، وتتسع معانيها، فكأنها قادمة من المستقبل أيضًا بلغتها ورؤاها وطزاجتها التي حافظت عليها رغم مرور عقود طويلة على إنجازها.