يكشف الراوي العليم في مستهل رواية “ الذئاب على الأبواب “ عن مستويات اللعبة السردية، منوها عن أسلوب عرض الأحداث والمساحة التي منحت للشخصية المحورية لمساءلة الذات ومحاورة الهم الإنساني في التصدي لقضايا تسيدت المشهد الاجتماعي لواقع ما بعد عام 2003 الواقع الذي تناوله مؤلف الرواية “ أحمد خلف “ وفق رؤية جديدة لا تقنع بتسليط الأضواء بل تغور في الحفر عميقا بحثا عن إجابات مؤجلة أو مسكوت عنها.
التساؤل ودوائر الشك
الشك غواية الرواية إذ لا يقين تجنح إليه أشرعة السرد، الشك الذي أحال يوسف المطارد من جهة مجهولة إلى مجرد ظل مهزوم لا يقوى على الثبات دون الانجراف إلى دوائر الأسئلة المتسعة كلما توغلنا في عمق الأحداث . تتسع دوائر الأسئلة التي وظفت كصوت رافض ومتمرد على متناقضات الواقع لتضم المرأة التي ظهرت فجأة في حياته والتي بدورها تشككنا في يوسف إن كان فعلا مطاردا أم يعاني أوهاما مرضية، وصاحب الورشة الذي يظن يوسف أن وصول مد الشك إليه دليل قاطع على وصول الأمور إلى نهاياتها المغلقة، الشك في الشخصيات المجاورة التي تحولت إلى مجرد وسائل لتبرير خوف وقلق يوسف من كل شخص قد يمر أمام نافذته أو يصادف النظر إليه وتجلى ذلك في عدد من الحوارات الدايالوجية المطولة التي تعد أقرب إلى التحقيقات البوليسية المسترسلة في أسئلة استجوابية تستبطن دواخل وأبعاد الشخصية المستجوبة، يقطعها حوار منولوجي يشكك في نوايا الآخر وصدق إجاباته . “ يوسف أرجو ألا تظن بي الظنون . يا للظنون من مخبأ للشكوك والريبة التي تأخذ المرء إلى حتفه “ ثم الشك في نوايا الأمكنة من شوارع وبيوت ووديان معادية للحياة وطرق هجرة غادرة . الأمكنة في الرواية جميعها معادية ومتحالفة مع المطاردين المجهولين، والشك في مقدار قوة الذات على احتمال الصدمات بل التشكيك حتى في هويتها “ ترى من تجرأ وأسماني يوسف وجعل أبي نجارا ؟ هل صحيح هذا اسمي ؟ “
الهوية وهواجس الأسئلة
يغرق يوسف في دوامة أسئلة الهويات التي ظلت معلقة على كلاليب السرد بلا أجوبة . من هم مطارديه ؟ من هو الباغي والأثيم ؟ إلى أي شخص أو أي جماعة أو أي كتلة أو حزب ينتمون ؟ وهل هم ذاتهم من يقف وراء رسائل التهديد والوعيد . من الذي استباح داره وقتل عائلته ؟ هل قتلوا بانفجار عبوة زرعت عمدا، أم كانت قذائف طائشة . الهوية ظلت هاجس السارد كونها مركز الأفعال والنوايا .. هذا السؤال الذي أراده السارد مفتوحا كبوابة كبيرة تمر منها كل أجوبة القارئ التخمينية والتوقعية . والهوية من وجهة نظر السارد مسألة لا تعرف الاستقرار والثبات، فقد ينزح الإنسان عن هويته بحسب ما تقتضيه متطلبات الواقع . تجسد الرواية صراع الهويات، الصراع بين الهوية المهمشة والمتغولة، بين هوية الضحية والجلاد . كل شخصية تظهر على مسرح الحدث هوية معادية مدسوسة حتى تثبت العكس . تكشف الحوارات المنولوجية عن الجدل الذاتي حول جدوى إظهار الهوية أو إخفائها، كما تفصح تلك الحوارات عن قساوة يوسف على ذاته واتهامها بالسذاجة والطوباوية والاستسلام عبر أسئلة متوجسة عن واقع حقيقي مليء بالتناقضات، وواقع مثالي لا وجود له إلا في مخيلته، ما يعكس عمق الشعور بالاغتراب النفسي والمكاني الذي استنزف يوسف ودفعه في الخاتمة إلى رفض واقعه الانهزامي ومواجهة المخاوف وجها لوجه حين قرر “ ملاقاة الرجلين استجابة لتحديهما “. رغم تعدد الأصوات في الرواية واسترسال البطل في الإفصاح عن مشاعره واسترجاع ذكرياته، تظل الهيمنة للسارد كلي المعرفة الذي يقطع السرد منبها القارئ عن وجوده وأنه من يمسك خيوط الأحداث منوها أو معتذرا، أو مبررا ومؤكدا هويته التي تتيح له معرفة كل أسرار ومشاعر وأفكار الشخصيات .
الماضي أمام منصة الأسئلة
يسترجع السارد عبر تقنية التداعي الحر انطلاقا من مؤشر الربط بين كونه ضحية مطارديه وضحايا الحروب شريط الماضي المحدد زمنيا بمرحلة الحرب الثمانينية مسترسلا في سرد حكايته حين كان ضابط وحدة عسكرية تتمركز في منطقة جبلية وعرة شديدة القسوة أشبه بمنفى عسكري . يوظف السارد بضمير الأنا المتكلم أسلوب الأسئلة الاستكشافية للتعمق في حكاية وادي الموت مكمن الوحدة العسكرية والمكان المعادي حد الهلاك في الرواية، ومن خلال تساؤلات يوسف حديث العهد على الوحدة وأجوبة جنوده التوضيحية نتعرف على الأساليب التي يتبعها الجنود للتعايش مع المكان وكائناته الظاهرة والخفية . يقدم الراوي من خلال تيار الأسئلة المتدفق من ماضي يوسف وجهة نظر فلسفية عن عبثية الحرب وعن هوية العدو السؤال الأكثر جدلا وتكرارا . مشككا في وجوده وفي القيادة التي أرسلتهم، وإن كان وجودهم في المكان الجبلي المتطرف عقوبة أم تعزيزا للقطعات المجاورة .