يمكن أن تكون العبارات الأولى التي اختارها الروائي علي لفتة سعيد لروايته “مزامير المدينة” بدءاً من الإهداء، مروراً بما قاله جلجامش، ثم مقولة الكاتب قبل الدخول الى الرواية، مفاتيح لما سيأتي من محتوى، بل إن عناوين الفصول هي مفاتيح أخرى تزيح الرتاج لندخل من خلالها الى منزل الرواية بتفاصيله التي تؤثث للأحداث، ومن يقرأ ما قاله جلجامش قبل الاف السنين سيدهش لهذا التشابه الذي حصل في العراق في ذلك الوقت وتكرر في عصرنا الراهن.
(يموت الرجل في مدينتي، وقلبه مثقل بالهموم
يهلك الرجل وهو محزون القلب
ها أنا ذا أنظر من فوق الأسوار
فأرى الجثث تطفو على النهر
وأنا سيحل بي حقاً نفس المصير)
يستخدم الكاتب الراوي العليم الذي يتغلغل في أعماق بطل الرواية محسن، يخاطبه ويذكّره بكل ما مر وما سيأتي، مثل ضمير لا يفارق الجسد (وربما هو الضمير بدلالات كثيرة داخل النص) يغزه ويتلو عليه صحائف الأيام منذ أن سيق للحرب مروراً بالحصار والحروب الأخرى والاحتلال، ومن خلال تلك المخاطبة بين الراوي العليم والبطل تجري أحداث الرواية، بتذكّر ذلك الجندي “محسن” الذي كان أحد جنود حرب الثماني سنوات، كل ما جرى من مرارات أثناء وبعد الحروب المتتالية، إنه عبد من عبيد الحروب، أما الآلهة فهي آلهة الحرب، وهذا المحسن لم تحسن له الأيام لتمنحه الأمان حتى بعد أن وضعت الحرب أوزارها، لأن وحشية الحرب تظهر بأقسى صورها بعد تلك الأوزار، ومحسن الذي عشق كتابة القصص لا هم له بعد أن خاض الحروب سوى أن يجد عملاً يمكنه من شراء الكتب والسجائر، فلم يجد الا العمل حفار قبور في إحدى المقابر، ترى كيف تحول القاص الى حفار قبور، وأية حياة يعيشها مع ساكني تلك القبور، بعد أن عمل في مهن عديدة لم تستمر، منها عامل مكوى بخاري وبائع شاي وعامل في فرن للصمون..كأن الحرب لا تريد له الا أن يعيش آلامها من خلال الراقدين تحت الأرض .
يتداعى السرد كهمس مر المذاق عن تلك الأيام التي لاتزال تسعّر جمرات نارها كلما انطفأت، أيام الحرب التي ماتزال شواخصها قائمة، وليس أكثر وضوحاً من شواخص قبور الضحايا ليعذبك السؤال (لماذا ومن أجل من كل هذا الموت) وتعذبه الذاكرة حين تنزف (الحصار والحرب وأعمارنا جعلتنا نأكل طحيناً فيه نوى التمر وقطط ميتة وفئران فاطسة، وربما تغيرت أصواتنا بعد أن تم طحن مطايا نافقة أو قتلتها سيارات مسرعة أو غرقت في مياه المبازل) ثم في حالة يأس يقول (لاشيء يستحق التضحية بعد، لأن التاريخ يسلم دائماً مفاتيحه للطغاة) ص18. بعضنا أدرك منذ بداية الحرب الأولى وربما قبلها أن القادم سيكون أسوأ، وهذا أيضاً ما تنبأ به بطل الرواية (محسن) وهو كاتب قصة عندما قال لصديقه الناقد ناهض: القادم أكثر لعنة.. ولذلك فمحسن يخاف من هذا القادم لأنه يرى بعين البصيرة أكثر مما يراه صديقه الذي تلوّن بعد الاحتلال الذي والذي يعاين الأشياء من سطحها الخارجي فقط، ولتشخيص الواقع يضيف محسن بأنه (مثل طفل نغل وسيبرز العشرات ممن يدعون أنهم الآباء الجدد والجديرون بالجلوس على قمة الرؤوس، وسيتصارعون من أجل إثبات أبوتهم وأنهم من أسقطوا صدام واعتقلوا صدام) ص19 .. وهذا ما حدث، وكثير من الناس تلونوا وتغيروا مع تلون وتغير الأيام، بل أصبح هناك لصوص لا يخجلون من لصوصيتهم، ومجرمون يقتلون في وضح النهار، وأراذل صعدوا الى المشهد بسرعة الصاروخ، ومدّعون يدّعون أنهم سجناء سياسيون في زمن النظام السابق ليحملوا هوية السجين السياسي ويتصدروا واجهات السياسة، وتجار دين لا يفقهون في جوهر الدين شيئاً، يحرمون الأشياء التي كنت تمارسها، النرد والدومينو والغناء والموسيقى والرقص وهم الذين كانوا يقضون أوقاتهم في المقاهي ويتسكعون في الطرقات ويمضون نصف الليل في شرب الخمرة، حتى أن أحدهم كان راعي غنم يجوب الشوارع وكان محسن يزجره ليأخذ غنمه بعيداً عن بيته، وها هو قد صعد نجمه له شنة ورنة فثأر من محسن عندما داهم بيته مع شلة من جماعته، وآخرون كانوا يكتبون قصائد الغزل فصاروا يكتبون القصائد الدينية تملقاً ويطلقون لحاهم، خلطة سريالية رسمها قدر لا يعرف قدْر الناس وأفاضلهم.
رواية مزامير المدينة، ذاكرة تنزف من خنادق الحروب، تخرج من وراء ساتر لتدخل نفقاً تحت الأرض لا يبين في نهايته ضوء، وسردية مؤلمة تحفر في قاع الروح ليتوهج الألم من جديد حين تستذكر أحبابك الذين قضوا في حروب الطغاة وتركوا لك انكسارات لا تلتئم وشتاتاً لا يتوقف وموتاً صنعه كارهو الحياة، وحينما تحاول القبض على عمرك فلا تجد سوى كمشة من أيام محرشفة لن توصلك الا الى الحسرات على ما فات من زهو شبابك، حتى العلاقة بين رجل وامرأة لا تتواصل، ثمة موانع كثيرة تحول دون ذلك، والحب لا ينمو بكامل عافيته في زمن الحروب والمطاردات وارتباط الدين بالسياسة وانعكاس ذلك على علاقات
الناس.