ياسين طه حافظ.. النص المتوهج الحافل بالحياة

ثقافة 2019/07/29
...

د. ثابت الآلوسي
في أغلب دواوينه التي صدرت بعد عام (2000) يتحرك  الشاعر ياسين طه حافظ  في مسار آخر، مختلفاً قليلاً عما كان عليه في دواوينه الأولى، المنشغلة غالباً برصد الواقع الاجتماعي، ومتابعة تفاصيله الحياتية، لتتسع رؤيته في هذه الدواوين وتصبح رؤية ذات طابع وجودي وكوني..
فهو لا يزال يدين الواقع، في ديوانه (عالم آخر) لكنه ليس الواقع الاجتماعي فقط، وإنما هو يدين الواقع بكل أبعاده، ولاسيما الواقع الأخلاقي الذي تغيرت فيه قيم وتراجعت أخلاق: (هذا عالم/ أكل الدود معانيه/ وروح هربت مبتعدة). 
(ص 6)
يدافع عن نبالته وزهده مقابل ما وصل إليه الآخر من تدجيل ونفاق عبر أسلوب مباشر: (فأنا لست محترفاً /وأنا ما تعلمت فن الطلاء/ولا بعت في مخزن تحفاً زائفات). (ص15)
وبعد أن كان شارع الرشيد أهم شارع في بغداد، نظيفاً آمناً يرتاده المثقفون والأدباء في مقاهيه المشهورة، أصبح له مهمة أخرى:(وظل شارع الرشيد/ لبائع الكبة، والشحاذ /وبائع الملابس المستعملة /والتاجر الخاسر /والمقاول الجديد). 
(ص 107).
أغلب قصائده لا تحمل ألغازاً أو تهويمات غير منضبطة، إنما هي تقدم رؤى ومواقف لالتقاط ما هو خفي وبعيد، لذلك نجد الشاعر زاهداً بجماليات التصوير زاهداً بالزخارف وبالإيقاع، لأن اغلب قصائده تقوم على قضايا مركزية ضاغطة لا تدع له احياناً الفرصة الكافية لإطلاقها في مشاحيف جمالية 
ملونة.أما ديوانه (ما أراد أن يقوله الحجر) يحاول الشاعر ان يفتح نافذة أخرى مهرباً من واقع قاسٍ، شيخوخة، ومن زمن مثخن بالجراح.. هي نافذة الحب عشق امرأة أخرى، يحاول من خلالها معانقة مباهج لن تدوم طويلاً، لحظات ينتزعها انتزاعاً ليحيا، وربما يفتعلها ليعطي لوجوده معنى: (نحن نخسر الحب ونعيد صياغته/ مهمتنا أن يتواصل الزوال/ ومتعتنا لحظات قبل الخسارة). (ص (28
هذا الإنسان المأزوم والخاسر، غير قادر أن يحيا كما ينبغي ولا أن يتعلم، وأنه مثل الجرذان غير قادر أن يستفيد من تجاربه:(ولدنا في الأزقة /معنا تولد الجرذان /مثلها تماماً نركض للجبنة /ومثلها نسقط في المصيدة)،
(ص 66).
غير أن هناك ما لا نراه عوالم سرية أخرى حافلة بالحياة، لم تتح لنا الفرصة لعقم واقعنا أن نستكشف ما فيها من جمال: (كم من أسرار غابت / ومفاتن /كم في الأرض جمال /لم يره أحد/ لو أن مرايا العالم /تكشف ما تخفيه)، (ص 
122).
وديوانه ( سيمفونية المطر) ، قصيدة واحدة بمشاهد متعددة، نص مفتوح استثمر فيه أغلب أنواع الكتابة الأدبية، شعر الشطرين، قصيدة التفعيلة، قصيدة النثر، الحكاية وأشكال السرد الأخرى، هذه القصيدة الممتدة قد تكون في بعض جوانبها امتداداً لبعض نصوص ديوانه " قصائد حب على جدار آشوري " تمرد على الواقع الأخلاقي ليحاصره بالحلم البعيد والمدينة الفاضلة التي لم تأت، لتصبح سيمفونية المطر معلقة الحلم والأمل المنشود، غير مرتبطة بمكان وزمان، مؤشرة شكوى من زمن تراجعت فيه الكثير من قيم الحياة وشروطها: 
(ظل اللحم العريان يفح تفاهات وعطورا /ليغطي تلفا في الأرواح /ويغطي حبا كذبا  /ويغطي حبا ضاع وحبا مخذول)، (ص(10أما ديوانه مخاطبات الدرويش البغدادي فقد فتح نافذة الحب لتمنحه قدرة على العيش: (أيتها الحبيبة القمراء/ كم قريبة أنت/ وكم أنا بعيد)، 
(ص 23).وأغلب قصائد الديوان هذا ينتمي إلى ما يسمى قصيدة التفعيلة، بشروطها وعناصرها الكثافة والتحويل الدلالي والإيقاع الهادئ، كما الغموض الشفاف والتدفق الوجداني وانفتاح في نوافذ التخييل وسعي أخاذ للإمساك بما يرى ولا يرى في قفص الشكل الجميل. 
وكان ممكنا أن يستذكر من) السكين) الجانب الآخر كونها أداة للمجرمين، لكنه تناول الجانب الذي من خلاله يدين الواقع يقول فيها: (وقفت امامها، حدقت، لامعة /وساكنة، وعزم حازم فيها /ولم أشعر بخوف من صلابتها /ولم أركن إلى حذر /فقد كانت مهذبة، وسيدة /وما كانت تراقبني)، (في الخرائب حلية من ذهب ص (249
وعبر أسلوب المجاورة أو المعادل الموضوعي ينقلنا بذكاء إلى محنة الإنسان، محنة المثقف في حركة المجموع. غير أنه في بعض النصوص الأخرى، قد يتساهل، يلجأ إلى المباشرة والحكمة الجاهزة، وقد تفلت الضربة الشعرية القادرة على رفع النص إلى منطقة الإبداع. 
ياسين طه حافظ شاعر 
كبير. وإذا كان محسوبا على جيل الستينيات غير أنه مختلف لم يتأطر في اتجاه محدد، اقترب من القصيدة السردية، ومهد لقصيدة النثر وكان ممكناً أن يتألق في كتابة القصة القصيرة..  أغلب قصائده سعي دائب لالتقاط الضوء الخفي عبر تضاريس الواقع، قد يكون هذا الضوء حلما أو حبا مفقودا، مستثمرا في الغالب طاقته العالية على تصوير الأبعاد القصية، ما ليس مألوفاً وشائعا.
إن أغلب قصائده تقدم أشكالا جديدة تأخذ من الشعر ايقاعاته وضرباته القصيرة، تأخذ من القصة المشهد والحوار ومن النثر التفاصيل.. قد نجد في قصائده جملا منثورة إلى جانب الجمل المتوهجة. وقد نلحظ تفاصيل سردية زائدة قد
لا ترضينا، غير ان اغلب قصائده تجاوزت جماليتها حدود الأبيات والمقاطع، تجاوزت معايير الدرس البلاغي القديم واشكال الانزياح لتصبح نصا نقيا متوهجا حافلا بالحياة.