بنية السَّرد.. داخليّتها وخارجيّتها

ثقافة 2019/07/30
...

بشير حاجم
هنالك روائيون مصرّون – دائماً - على عدم التمييز، فصلاً أو عزلاً، ما بين: السارد الخارجي و نظيره الداخلي. قبالتي الآن نماذج عديدة لهم، ذات مستويات متباينة، تُثبت إصراراً مستفِزّاً كهذا. سأكتفي منها بثلاثة فقط، لأمثَلة بيّنة، تفي بغرض هذه المقالة: تطبيق هذا الاثبات اجرائيّاً.
بحسب «البث»، أوّلاً، ثمة المتلقّي، أيِ المسرود له، أمام هذين الساردين: الخارجي، لأنه عليم كلّي، يريه حتى المتخفّي – الداخلي، لأنه عليم جزئي، يريه فقط المتجلّي. حين يبدو خلطٌ بينهما، عفويّاً أم قصديّاً، تغدو بنية السرد: مربَكة مربِكة، معا، كما هي، بأبسط حالاتها!، في نموذج محمد خضير سلطان: شبح نصفي، الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق ـ بغداد، 2018. إذ ثمة سارد خارجي، أيْ لا حُجب قبالته، يخفي عن متلقّيه مكاناً بأداةٍ بياضية خلال حوار بين شخصيتين: - ماذا فعلتم بريحان ضيول. – ابعدناه. – كيف؟ - ارسلناه الى مدرسة حزبية في (...) «يهمس العامر في إذن الناصر»/ ص127. لقد أراد الروائي، هنا، أن يتوارى وراء «(...)»، حيث الأداة البياضية، لئِلا يكشف عن (المكان) لاعتبارٍ ذاتي غير موضوعي. لكنه سها، وهو يحاول التلميح له دون التصريح به، عن أن سارده الخارجي عليم حتى بهمس «العامر» في أُذن «الناصر». فكان عليه، والحال هذه، أن يوكل تواريه، الذاتي لا الموضوعي، لمن رأى فعْل الهمس هذا، كما تجلّى أمامه، وهو أيُّ سارد داخلي مراقِب: مشارك «و/أو» مشاهد.
وبحسب «العليميّة»، ثانياً، ثمة المراقَبة، المشاركة «و/أو» المشاهدة، من هذين الساردين: الخارجي عليم ببواطن الشخصيات كلّها - الداخلي عليم بباطن شخصيته فقط. حين يبدو خلطٌ بينهما، عفويّاً أم قصديّاً، تغدو بنية السرد: مربَكة مربِكة، معا، كما هي، بأبسط حالاتها!، في نموذج يعقوب زامل الربيعي: العالم الأهم، دار المثقف للطباعة والنشر ـ بغداد، 2018. إذ ثمة سارد داخلي، مراقِب: مشارك ـ مشاهد، يتحدث عن علاقة حميمية لأبيه بأمّه هكذا: تختزن ذاكرتها بما يقال وما لا يقال من خصوصياته الليلية السرية معها التي تجعلها سعيدة حين تسهب بتخيلها وإعادة صورها، صورة فصورة وحركة فحركة وكلمة فكلمة ورعشة فرعشة./ ص36. أي أن الروائي، هنا، قد أتاح لسارده الداخلي، هذا، أنْ يتغلغل في ذاكرةِ هذه الشخصية، وإنْ هي أمّه، بل يتمادى في عليميّته بباطنها: تسطو عليها فتنة الفراش فيرتعش بدنها. ترتعش فيتحمص وجهها. ترتعش، فتصعد الدماء الحارة./ ص نفسها. هذا التغلغل المتمادي، في ذاكرة الأمّ وباطنها، ليس مباحاً سوى للسارد الخارجي ذي القدرة الكلّية المطلقة، حتى على الكشف عن أية فكرة سرية لكل شخصية روائية، وفقاً لزاويته المجاليّة أو وجهته النظريّة.
أمّا بحسب «التبئير»، ثالثاً، فثمة زاوية مجال، أو وجهة نظر، عند هذين الساردين: الخارجي ذو رؤية ـ بصيغة الغائب ـ كلّية مطلقيّة – الداخلي ذو رؤية ـ بضمير المتكلم ـ جزئية نسبية. حين يبدو خلطٌ بينهما، عفويّاً أم قصديّاً، تغدو بنية السرد: مربَكة مربِكة، معا، كما هي، بأبسط حالاتها!، في نموذج علي الحديثي: ارفعوا صوت التلفاز، دار الرابطة للنشر والتوزيع ـ الشارقة، 2017. إذ ثمة سارد داخلي، متكلم، يتساءل: فكيف سأتعامل مع عالمي الجديد الذي أُفتتح صباحه بكلمة «النايب ضابط» حسون: - لا يقل لي أحد: «إنه خريج».. هنا «خِرِّيج مِرِّيج كُلَّه بِالِبْريِج»... «نزّل إيدك».. صرخ بجملته الأخيرة على الجندي الذي يقف ورائي، وهو يعدّل نظارته الطبية../ ص19. فكان على الروائي، هنا، أن يقوِّل سارده الداخلي بـ»يقف أمامي»، بدلاً عن «يقف ورائي»، حيث رؤيته للأمام، ليست للوراء، بحسب تنبيه «النايب ضابط» للجندي: - أنت في وضع استعداد.. «قَشْمَر»../ ص20.