ثلاث حركات للأشياء

ثقافة 2019/07/30
...

ياسين النصير
وحده الشاعر يستطيع ان يرينا هذه الحركات، اعني الروائي الشاعر، الناقد الشاعر، الفوتوغرافي الشاعر،لان العالم لايسمى عالما دون ان يرينا كيف أن الاشياء تتحرك باتجاهات غير مرئية، لاهواء خارجيا يحركها، ولا فعلا طبيعيا يغيِّر من أمكنتها،ولا نيرانًا تشب فيها ، لينبعث رمادها من جديد، كل حركاتها تحولات في كينونتها، وإلا لا معنى للشعرية إذا لم ترصد ما لايرى في الأشياء.
الحركة الأولى
 معطاة كأي انثى جميلة ترتهن إلى الطبيعة فتمارس عليك الرؤية، هي التي تراك لا أنت، هذه واقعيتها المباشرة، تملك سلطة اختراق عينيك وذاكرتك، كل المتجولين في اماكن النزهة يجمدون نظرتهم للأشياء ،ويدعون لتمارس عليهم سلطتها، هذه النظرة الرعوية الرومانسية تنقل معها الأوبئة والأمراض وتشكيلاتها العفوية، أه ما أجمل الأهوار وأنت تراها سائحا في مشحوف ينسل على سطح ماء وبيدك غرافة الماء تسيرة، لكنك لا ترى أمراض الأهوار، ولا بيتها القصبي المهلهل، فالواقعية المباشرة تغمرعينيك برؤيتها الأحادية، لاسيما وهي تقتطف من نور الكون وجودا لها، لا دخل لأعيننا في كينونتها. رؤية مباشرة لأن ترى الأمكنة وهي تخترق ذواتنا واعيننا وكأننا مرآة دون قصدير، فترى ما خلف مرآتنا/ أجسادنا. الشعراء الصغار يكتفون بهذه الرؤية المجانية، التي لا توفر كلمة كشف واحدة.
 
الحركة الثانية
 تبدأ عندما تحرك عينيك باتجاه الأشياء، عندئذ تنتقي منها ما يمكن ان يشكل لك موضوعًا، هنا، ومن داخل الوعي القصدي بالأشياء ستكون عينيك أكثر سعة، وأقدر على سبر الأشياء، وبامكانية العقل والذهنية النشطة، وفاعلية الخبرة، ستكون الأشياء متحركة، فاعلة، نشطة تستحضر ليس ذاتها فقط، بل لكل ما يشابهها، ها هي تستعير الطبيعة والألوان والأضواء لتتضمنها لذاتها، لترسم لوحة “لمونيه” او “لفان كوخ” مراعية نسب المناخ، وتسلط ضوءها على الذاكرة،  وتنشد عبر حضورها حقلا من الصور اللامرئية.
 
الحركة الثالثة
 وهي ميدان الشعرية بألوانها التعبيرية، والنثرية والتشكيلية، شعرية تتم عندما لا تكون هناك أشياء، بل أنت ايها الروائي، الشاعر، الرسام من يستحضر الأشياء لها، أنت من يخلقها في اللامرئي، أنت من يكشف عن بواطنها، انت من يلغي غلافها، انت من يراها ولا أحد سواك، عندئذ تكون إما شاعرا أو مجنونا أو مهلوسا، أو ساحرا، أو دجالا،  عندئذ ستجد نفسك على سرير “لاكان” وهو يكتب على الورقة هلوساتك، القصيدة أو الرواية، هذه الحركة وحدها الأكثر صدقا من الأشياء التي ترفض أن تكون واقعية أو جميلة أو مؤثرة، هذه الحركة هي الكينونة اللامحددة للأشياء، تلغي اسماءها، وأفعالها وأشكالها وتستقرفي اللامرئي، في أعماق بحارها، لتجدها مرئية من شعراء العالم، كما لو أنك وحدك نبي الرؤية، لأن الشعر والهلوسة والجنون تغييب متعمد للذاكرة المعطاة، وما البحث عن طريق النسيان عما لم يكن موجودًا إلا الطريق المجرب إلى الشعرية، هناك، في العتمة الكونية ترى دانتي او ابي العلاء المعري، لأنك في كينونة اللغة التي تراها مكانًا لاحتواء الفكرة.
لابأس من أن تبدأ في كتابة  قصيدتك، روايتك، قصتك القصيرة، لوحتك، متدرجًا من الرؤية الواقعية التي تمارسها الأشياء على أبصارنا، إلى الرؤية التخييلة التي تمارسها أنت على الأشياء لتسبر ما ورائها، عن ذلك اللامرئي ، مستعملا  خيال المادة اللاوعي، ومن ثم تتجرد من اية رؤية : إغمض عينيك سترى سديما من الجزئيات يتطافر ويملأ مساحة الرؤية السابرة للمجهول، هناك سترى  الأشياء التي ستنكتب على الورقة، أي  تلك التي تكتب نفسها. ضمن الرؤية الثالثة لا تجد شيئا معينا  لتراه، بل تخلقه من العدم، من عجينة الاشياء، وقد اختمرت بين اصابع بوذا الألف، لتصيّرك شاعرا.