من يتذكر صافيناز كاظم؟

ثقافة 2019/08/03
...

طالب جبار الأحمد
 لا أحسب أن أحداً لا يعرف الكاتبة والأديبة المصرية "صافيناز كاظم"،.. ولكن من يتذكر اليوم مواقفها الشجاعة في الدفاع عن مظلومية شعبنا خلال سنوات المحنة المريرة؟..دعوني أُذكرّ من نسى.
في العام 1975 قدمت السيدة "صافيناز كاظم" إلى العراق إثر ملاحقات نظام أنور السادات لمعارضي اتفاقية كامب ديفيد، كانت يومها تتصور أن بغداد هي دار السلام حقاً لكل العرب المُلاحقين في بلدانهم، وحظيت في بداية  إقامتها في العراق بحفاوة النظام السابق حتى أن صدام حسين استقبلها شخصيا ذات مرة في مكتبه حين كان نائبا لرئيس الجمهورية. تولت تدريس المسرح والأدب الإنجليزي في الجامعة المستنصرية، وفي تلك الفترة، التي تغنى فيها أدباء وكتاب عرب بليالي بغداد في عهد الثنائي البكر- صدام، اكتشفت ببصيرتها الثاقبة وجهاً آخراً لمدينة ألف ليلة وليلة، وادركت بحسها الصحفي الإنساني قسوة المأساة وهي تتسلل مع زوار الفجر إلى بيوت العراقيين عندما أطلقت ماكنة النظام القمعية حملتها الشرسة للتبعيث القسري وخنق كل صوت لايهتف للطاغية ، وفي ظرف زمني قصير تناسلت أعراس الدم بشكل مخيف، وأخذ طوفان الرعب الدموي يجتاح كل شيء حتى وصل إلى قاعة درسها في الجامعة المستنصرية.
فوجئت الأستاذة صافيناز باعتقال اثنين من طلابها الأذكياء لمجرد الشك  بولائهم للنظام،  وصُدمت لسياسة التمييز الطائفي ومشهد ترحيل الآلاف من العوائل العراقية قسراً وبطريقة لا إنسانية إلى إيران بدعوى وجود أصول فارسية لأفرادها تعود للقرن التاسع عشر!، ثم توالت الصدمات النفسية أمام كرة الدم المتدحرجة حتى بلغت ذروتها عند إقدام النظام على إعدام المرجع الشهيد محمد باقر الصدر(رض) وجعل عقوبة الإعدام تطال كل متعاطف مع جهة معارضة وحتى من يتندر بطرفة عن النظام !.
قررت صافيناز كاظم حينها أن تقف إلى جانب الضحية في مواجهة الجلاد ، تخلت عن إمتيازاتها المادية في التدريس الجامعي، دافعت ببسالة عن طلبتها المعتقلين دون أن تجد من يتعاون معها، فقط لاذ الجميع بذل الصمت، غادرت بعدها البلد الذي تحول إلى زنزانة أسطورية تضم كل المواطنين والمقيمين، وبكل شجاعة وإصرارعملت على فضح "الخديعة الصدامية"، مثلما كشفت قبلها عن زيف "الخديعة الناصرية"، واستهلت شهادتها التاريخية عن ويلات العراق وجنون فرعونه بكتابها "يوميات بغداد" الذي صدر عام 1984 ، ثم توالت مواقفها وكتاباتها التي تكشف عن مصداقيتها وعمق حبها ووفائها للعراق، البلد الذي يحلو لها تسميته بـ "الطائر الجميل".
ربما يجهل الكثير من العراقيين هذه التفاصيل سيما من أبناء الجيل الجديد، وربما نسيّ كثيرون من معارضي النظام السابق وقادة "العهد الجديد" دور قلمها المؤثر في مقارعة الطغيان والديكتاتورية خلال ثمانينات وتسعينات القرن الماضي عندما لم يكن هناك بواكي للعراق الجريح.
كان المعارضون للنظام السابق لايجدون - في تلك الحقبة - من يصغي إليهم أو يقف إلى جانبهم في الإعلام العربي – إلاّ ما ندر- ، بل أن الكثير من الكتاب العرب تطوعوا في حملة النظام لتخوين المعارضة العراقية والتحريض على اجتثاث قواعدها الشعبية، وخانوا ضمائرهم في ما كتبوه لتبرير وتسويق حملات القمع والإعدام والإبادة الجماعية التي طالت العراقيين بوحشية لانظير لها في تاريخ العرب الحديث.
يقول الأديب المصري يوسف القعيد في كتابه "امرأتان وسبعة رجال" متحدثا عن دور الكتاب والمثقفين في صناعة وترويج "الظاهرة الصدامية" في العراق وتسويقها عربياً: "هناك مسؤولية تقع على المثقفين في صناعة الظاهرة، سواء مثقفوا الداخل العراقي أم الخارج من أبناء الوطن العربي الذين تخصصوا في الكتابة عن صدام حسين "القائد الضرورة"، وهذا أحد التعبيرات التي أطلقت عليه مبكراً جداً في كتب صدرت عنه في الخمس سنوات الأولى من حكمه، كتبها مؤلفون عرب سواء من الذين عاشوا في العراق، أو الذين كانوا خارجه".
كانت مهمة "الهؤلاء" شخذ السكاكين للقتلة، والإمعان في تدمير الضمير لدى الإنسان العربي، ولم يتغير المسار بالنسبة لهم حتى بعد سقوط نظام الطاغية عام 2003، وبدلاً عن الاعتذار للشعب العراقي ذهبوا بعيداً في شوط تزييف الوعي والتاريخ فأعربوا عن أسفهم وحزنهم على إعدام طاغيتهم، وأسبغوا عليه مرة أخرى صفات البطولة رغم هروبه المخزي أمام قوات الاحتلال.
حقاً لا أجد تعبيرا مناسبا عن هذا المشهد البائس أفضل مما قالته السيدة صافيناز، في إحد مقالاتها، عن مواقف أولئك الكتاب : "أنعِشوا الذاكرة التي ترى لحظة إعدام السفاح فتتأسف وتدين ولا تستعيد لحظات الموت الجماعي للشعب العراقي الذي لم يجد في لحظات محنته من يتفهم وجعه ويمد له يد المساندة".
تحية للكاتبة الكبيرة صافيناز كاظم التي لاتزال تمسك بتلابيب الكتابة وتواصل الإبداع والعطاء لأمتها بعد تجاوزها سن الثمانين، أطال الله في عمرها، وكم أتمنى اليوم لو أن عينيها تكتحلان ثانيةً برؤية طائرها الجميل وقد أخذ يستعيد عافيته وقدرته على التحليق في سماء الحرية.