تطريز

ثقافة 2019/08/03
...

كاظم الجماسي
شتاء أو صيفا، وعند الخيط البكرمن نسيج الفجر، كل منهن تحكم نقاب وجهها جيدا، لتهرع متأبطة شوالاتها، وبعزم مقاتل مستميت ينطلقن نحو كل ناحية من نواحي المدينة الكبيرة، للأحتطاب..، يقطعن مسافات تطول أو تقصر بين مزبلة وأخرى، يجمعن علب البيبسي الفارغة بعد ان يدعكنها ليودعهن جوف الشوال، منهمكات بعملهن غير معنيات بمن راح أو جاء، حتى أذا أمتلأ شوال أحداهن، أحكمت إغلاقه جيدا، وفتحت آخر، ومضت تجمع وتجمع بذات الوتيرة من العزم والهمة، لاينقص من عزمهن حين تكون المزابل شحيحة العلب، أو تكون مختبئة تحت أكوام نفايات لاحاجة لهن بها..
   أعتادت أنوفهن المستترة خلف النقاب عطن ونتانة المزابل، ولم يعدن يعرن بالا لتلوث هدومهن بالأتربة والدهون والأوساخ، سيما وأن سني شبابهن قد أفلت، ولم يطرق باب انوثتهن طارق منذ زمن بعيد، وقد بلغت صغراهن اليوم مايزيد على الأربعين ..
   لكل واحدة منهن حكاية مختلفة، سوى أنهن يجتمعن بذات المصير..، مصير تكتظ فيه الخسارات والخيبات والمرائر..
    آخر كل نهار والشمس تهم بالمغادرة، يلتقين عند طرف من اطراف المدينة، حيث مخزن تاجر السلع العتيقة، يستقبهلن بوجوم كما هي العادة ، يزن حمولاتهن وينقدهن أثمانها، ليقفلن راجعات بعد أن يتزودن بالطعام وحوائج أخرى..
كل مساء، السائر جوارالمنزل العتيق، ذي الصالة والغرفة اليتيمة الواحدة، والجدران المغلفة بورق زاهي الألوان، يستنشق عبيرا طيبا نادر المثيل، حيث يبدأ طقس خاصا جدا تقيمه القاطنات، يغتسلن ويغسلن هدومهن ويضعن حفنة من خلطة بخورخاصة على كل مبخرة من المباخر المتوزعة في الأركان ثم يجلين أرض المنزل وجدرانه، ويجتمعن أخيرا في الصالة كل تمسك بقماشتها البيضاء وإبرها الخاصة، بعد أن يتناولن عشاءهن، ليبدأن كدحا آخر ولكن ممتعا أيما متعة، يطرزن تحت ضوء واهن قماشاتهن ببلابل وحمائم وفراشات ، كل طيرمن لون وكل جناح من لون، بل كل ريشة من لون، يجن الليل وهن منهمكات، يطرزن ويطرزن، تحتشد الطيور على وجه القماشة ولاتفيض، حتى يغبن عن الوعي، وتأخذهن سنة النوم ..
شتاء أو صيفا، وعند الخيط البكر من نسيج الفجر، يستيقظن فيجدن قماشاتهن بيضا ناصعات كما لم يمسسها أحد ..