منذ بواكير القرن المنصرم شهد الفن الروائي تحولات شكلية ارتبطت بالتجريب السردي الذي تمظهر مع روايات مثل "البحث عن الزمن المفقود" للروائي الفرنسي مارسيل بروست و"عوليس" للروائي الايرلندي جيمس جويس و "السيدة دلاواي" للروائية الانكليزية فرجينيا وولف، وقد اعتمدت هذه النصوص على الحفر في جوانيات الشخصيات بكل إرهاصاتها النفسية والوجودية مشتغلة على تيار التداعي الحر.
وقد تزامن ذلك مع طروحات المدرسة الشكلانية الروسية التي تعاملت مع بنية الرواية على وفق بنيتين الأولى هي المتن الحكائي الذي يتعامل مع بنية الحكاية والثانية هي المبنى الحكائي الذي يعتمد على إعادة صياغة القص على وفق معمارية جديدة تعتمد عدة انساق سردية مثل النسق المتناوب والمتوازي والدائري والتكراري والاستباق والاسترجاع.
في حين كان السرد الفيلمي مكتفيا بذاته في محاكاته للحداثة السردية، ولو تابعنا فيلم "التعصب" للمخرج الأميركي غريفث نلحظ أن بنية القص اعتمدت على أربع حكايات مختلفة للتعصب قدمها المخرج على وفق النسق المتوازي، ومن هنا ندرك أن الطروحات الشكلانية التي نظرت للبنية السردية للرواية جاءت متعاصرة مع بنية السرد الفيلمي، والحال ذاته تكرر مع فيلم "الدارعة بوتمكن" للمخرج الروسي ايزنشتاين الذي عمد إلى إطالة مشهد سلالم الاوديسا من خلال تصويره من أكثر من زاوية مستخدما الانتقالات ما بين اللقطات مما أدى إلى إطالة الزمن الفيلمي بشكل مغاير عن الزمن الكرونولوجي، وهذا ما ذهب إليه المنظر الفرنسي جيل دولوز في كتابه "الصورة الزمن" حينما وصف التحول في حكائية السينما بقوله إنّ القص فيها اتخذ أشكالا جديدة مثل التكرارات والاستبدالات والتعديلات التي تشكلت منها البنية الجديدة، ولم يكتفِ الشكل الفيلمي بهذا التحول فقد ظهرت تيارات سينمائية مثل السينما الصافية والسريالية والدادائية وغيرها عمدت على تشظية الشكل الأرسطي الكلاسيكي وانفتحت على أشكال جديدة مغايرة.
وعند بزوغ الرواية الفرنسية الجديدة في خمسينيات القرن المنصرم نلحظ أن الأزمنة بدأت تنفلت أكثر من ذي قبل والحبكة الروائية أصبحت أكثر تفككا، وهذا ما بدا واضحا في روايات الفرنسي ألان روب غرييه مثل "المماحي" و "الغيرة" هذا من ناحية التحول الشكلي، أما من ناحية البناء الموضوعاتي فقد انفتحت على اللا جدوى والاغتراب الذي عاشه الإنسان وقتها، ومن تجليات الاغتراب الوجودي رواية "الغريب" للكاتب الفرنسي البير كامو، وهي كما يرى الناقد ياسين النصير ذات نزعة تدميرية بنائية توضحت من خلال الرفض واللا انتماء والفردية والانكفاء والعزلة والميل إلى الأماكن المغلقة، والابتعاد عن الجماعي، واستنهاض مكنونات شعرية، ومغادرة للروح الجماعية والإغراق في الأحلام.
في حين شهدت التحولات البنيوية للفيلم الروائي تحولات شكلية مع الموجة الفرنسية الجديدة في السينما على يد روادها مثل تروفو و ريفت و كودار، ولو تابعنا الاشتغال الفيلمي للمخرج غودار نلحظ في فيلمه "حتى انقطاع النفس" تشظيات عديدة تجسّدت من خلال استخدامه للمونتاج القافز على طول الفيلم لكسر الإيهام من جهة ولترسيخ اللا جدوى والعدم التي عاشها شباب تلك الفترة من جهة أخرى.
ولعل قيام بطل الفيلم بقتل الشرطي على الطريق السريع يذكرنا بذات الفلسفة التي قام بها ميرسو بطل الفيلسوف البير كامو في روايته "الغريب" حينما ماتت مشاعره عند معرفته بموت أمه، ان طروحات غودار نهلت كثيرا من الطروحات الحداثية، وهذا ما بدا واضحا في فيلم "لتحيا حياتها" الذي كانت عتباته السردية عبارة عن صورة للبطلة المومس نانا على الجانب الأيسر الذي بدا مائلا للسواد، وإلى جانبه الأيمن فيلم "لتحيا حياتها" وعنوان فرعي فيلم من أثنتي عشرة لوحة، ومن ثم يكاشفنا العنوان الفرعي الأول الذي يكسر الإيهام بعنوان (نانا وبول ورغبة نانا بالاستسلام)، ومن ثم باقي اللوحات التي تبيّن المراحل المختلفة من حياة نانا التي تحولت بها من حياة العفة إلى عالم الليل
وبطريقة غير منتظمة نوعا ما.
وفي فترة السبعينيات شهد الشكل الروائي تحولات كبيرة نحو رواية ما بعد الحداثة التي اشتغلت على انفتاح النص وغياب التجنيس والاهتمام بالمهمش وتشظي الحكاية وتوظيف الميتاسرد، فالنص أصبح شذرات متناثرة متفرقة يقع على المتلقي عبء ترتيب أحداثها، فضلا عن التداخل الاجناسي بين الأجناس الادبية، والانفتاح على الميتاسرد الذي يعني الكشف عن ميكانزمات التسريد داخل بنية النص من خلال كسر الإيهام والتعليق على بنية الشخصية الأحداث وإشراك القارئ في بنية النص فضلا عن الانفتاح على مواضيع الجنسانية والجنوسة والنسوية والزنوجة وما بعد الكولونيالية.
أما أفلام ما بعد الحداثة فقد اشتغل بناؤها السردي على تداخل الأزمنة فالعمل يتكون من أحداث ومشاهد متفرقة لا نعرف أن كانت تنتمي إلى الماضي أم الحاضر أم المستقبل، فضلا عن توظيفها التداخل بين الأنواع الفيلمية مثل أفلام الرعب وأفلام الخيال العلمي والأفلام السيريالية وغيرها في بنية عمل واحد، وكذلك اهتمامها بالبطل الشعبي أو الإنسان المهمش العشوائي بكل تمثلاته السيسيوثقافية مثل النسوية والجنسانية ومابعد الكولونيالية والزنوجة، واعتماد سردها في بعض اشتغالاته على تقانة الميتاسرد التي تشتغل على كشف اللعبة السردية، أي أنّ السارد يكسر الإيهام كاشفاً لنا ان ما نراه ما هو إلا محاولة لصنع فيلم أو يصنع فيلما داخل فيلم، وكذلك توظيفها (النستالوجيا) أي الحنين إلى الماضي ومحاولة التعايش معه لا محاكاته بطريقة تاريخية أو
تخيّلية.