هل يمكن للفكر البشري أن ينوجد ويستمر من دون ترسيمة لأقطاب متقابلة تحدد له هوية الاشياء وماهيتها؟ وبالتالي القدرة على استيعابها؟ هذا سؤال كبير يمد جذوره في طبيعة الوعي البشري نفسه وعلاقته بالعالم المحيط به. وثنائيات من قبيل المجتمع/ الطبيعة، الذات/ العالم، الخير/ الشر، المقدس/ الدنيوي، المحتوى/ الشكل، الروح/ المادة، الأنا/ الآخر، هي أقطاب متقابلة لا نراها فقط في الممارسة الفكرية اليومية للبشر على طريقة التقسيم والتقييم بين الجيد/ الرديء، الاخلاقي/ اللااخلاقي، الصواب/ الخطأ، وانما تمد جذورها الى مناطق أعمق في صروح الفكر والفلسفة عبر التاريخ. الثنائية dualism هي النظرة بأن الواقع يتكون من جزأين منفصلين. وجوهر الثنائية يكمن في الفجوة المتعذر تجسيرها بين نظامين من الكينونة أو الوجود لا يمكن الحكم عليهما أو مقاربتهما بنفس المعايير، اي ليس لهما معايير مشتركة، وبالتالي لا مناص من نوع من المزاوجة أو التوفيق بينهما، اذا اردنا الافتراض بان العالم ممكن الاستيعاب والدفاع عن ذلك.
الثنائية في التاريخ الفلسفي:
وبنظرة سريعة الى تاريخ الفكر البشري نرى ان هذه الثنائيات أو الاقطاب المتقابلة كان لها دور كبير في المعرفة البشرية. وفي كتابه (البحث عن اليقين) The Quest for Certainty يقول الفيلسوف الشهير (جون ديوي) John Dewey ان كل المشاكل الحديثة للفلسفة تنبع من التعارضات الثنائية، لا سيما بين الروح والطبيعة.
عند الفلاسفة ما قبل سقراط تجلت الثنائية في التقسيم بين المظاهر والواقع، اما لدى افلاطون فتجلت بوجه خاص بين عالم المثل والافكار الأبدية من جهة، وعالم الصيرورة والتحولات من جهة اخرى. وكانت فلسفة ديكارت احدى ذرى التقسيمات الثنائية في الفلسفة، بين الذهن أو الانا المفكرة من جهة، والمادة الممتدة المحيطة بها من جهة اخرى. تمييز ديفد هيوم Hume بين الواقع والقيمة يمكن ادراجه تحت هذا العنوان ايضا، وكذلك تمييز (كانْت) بين عالم الظواهر من جهة، وعالم الاشياء في ذاتها من جهة أخرى، وهو ما يمكن الوصول به الى فلسفة هايدغر وتمييزها بين الكينونة الزمان، أو تمييز سارتر بين الوجود والعدم.
الثنائية والأحادية:
مقابل هذه الثنائيات هناك مذاهب فلسفية وفكرية أحادية. والأحادية monism هي التي تجعل احد الطرفين هو الأساس والأصل، والطرف الاخر ثانوي أو مشتق منه أو امتداد له. وقد ذهب الفيلسوف (توماس هوبز) Thomas Hobbes (1588-1679) الى ان الذهني هو ببساطة امتداد متفرع من المادي. اما بيركلي Berkeley (1685-1753) فذهب الى ان اشياء العالم المادي هي في حقيقتها مجموعات من الافكار، ويكفي ان تغيب الافكار عن الذهن، كما في النوم أو فقدان الوعي، حتى لا يعود للزعم بوجودها معنى.
بالنسبة لهيغل فقد افترض توليفة أو تركيبا من المتعارضات على صيغة اطروحة واطروحة مضادة، وان نفي الاولى من قبل الثانية يؤدي بدوره الى اطروحة ثالثة جديدة تكون عرضة لنفي جديد، وهكذا يسير تطور الروح المطلق عبر التاريخ. بينما ذهب ماركس الى ان جوهر الصراع الاجتماعي ونفي النفي يكمن في صراع الطبقات، معلنا انه وضع الجدل أو الديالكتيك الهيغلي على قدميه بعد ان كان واقفا على رأسه، فالتطور المادي هو المحرك للتاريخ، وليس العكس، وقطبا الصراع في العالم المعاصر هي ثنائية الرأسمالية/ الطبقة العاملة (البروليتاريا).
الثنائية والتعددية:
من الاتجاهات الاحدث في القرن العشرين التي ناهضت الثنائية والتفكير الثنائي ما قدمه لودفيغ فتغنشتين من ترسيمة تصنيف جديد على أساس التشابهات بين المصنفات المختلفة. كما ان فلسفة العلم المسماة «الوضعية المنطقية» logical positivism أو “الوضعية التجريبية” التي هيمنت في النصف الاول من القرن العشرين، وتمييزها الثنائي بين الحقائق التجريبية التركيبية والحقائق التحليلية الصورية تعرضت للنقد اللاحق الشديد ايضا (ولعل القارئ على اطلاع على كتاب (توماس كون) الشهير “بنية الثورات العلمية”). وكذلك أفضت اتجاهات ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة والتأويلية الى خلخلة استقرارية المعنى المتعارفة، بما في ذلك الثنائيات المتعارضة، ومالت الى نسبية الحقيقة. فيما تحدى دريدا التعارضات الثنائية والتراتبيات الهرمية في الفكر البشري، واذا كانت ثنائية الدال/ المدلول ظلت فاعلة في نسقه الفكري، فان المدلول نفسه لا مستقر نهائيا له، وهو بدوره دال لمدلول اخر يحمل اثرا من ذلك المدلول في حركة مستمرة لارجاء المعنى.
الثنائية والثنائية القطعية:
ومن الضروري التمييز هنا بين ما تناولناه في هذا المقال بخصوص الثنائية في الفكر البشري وابعادها المعرفية والفلسفية، وبين ما يمكن ان نسميه «الثنائية القطعية» أو «الجامدة» التي تشيع في نمط تفكير الانسان والمجتمع العربي، وكل البنى الفكرية الميالة للجمود. حيث توضع حدود قطعية بين ما يراه الانسان حقيقة أو زيفا، صوابا أو خطأ...الخ. واذا ما تحول من احد القطبين الى الاخر، كان التحول، في الغالب، شاملا وارتجاليا، لا روح نقدية فيه، ولا تركيب من العناصر الايجابية في القطبين المتقابلين، ولا الاكتفاء باقصاء ما هو سلبي في كل منهما والابقاء على ما سواه.
فهذه الظاهرة ترتبط بالطبيعة الاجتماعية والسيكولوجية للفرد والمجتمع اكثر من ارتباطها بالجانب الابستمولوجي ( أي المتعلق بنظرية المعرفة وطرائق ادراك الانسان للعالم المحيط به والتثبت من معرفته بها)، وهي بالتالي مقترنة بالموروث الفكري والثقافي والبنى النفسية والاجتماعية المهيمنة. أما الحاجة المعرفية لتقسيم العالم والاشياء الى مجالات متقابلة كارضية معرفية، اي في البعد الابستمولوجي، فشيء آخر.
ولعل الشطر الشعري الشهير في موروثنا العربي أيضا الذي يقول «وبضدها تتميز الاشياء»، تعبير عن شعور أو حدس أولي وصائب بضرورة الثنائية في الفكر البشري، بدرجة أو أخرى، اذا ما اريد مقاربة العالم المحيط بنا واستيعابه.