النشأة والإشكاليات وتطوّرات المسار

العراق 2019/08/20
...

جواد علي كسار
 

أثناء احتدام النقاش في الداخل الإيراني بشأن الاتفاق النووي سنة 2015م، انقسم الفرقاء إلى مؤيدٍ بحماسٍ أو معارضٍ بتطرّف، وفي واحدة من الندوات النقاشية عبر محطات التلفزة الإيرانية، أدهشني أن الاتفاق بنسخته الإنكليزية يقع في (156) صفحة، وقد قدّمت إحدى الوكالات الإخبارية الإيرانية ملخصاً مفيداً له، يقع في (17) صفحة.

أعترف بأن أغلب النقاشات التي دارت في التلفزة الإيرانية ومعها الصحافة المحلية في طهران، لم تستهوني، كما أعتقد أنها لم تُغرِ كثيرين غيري، لطابعها التقني المحض، وتعقيد تفصيلاتها العلمية، وكثافة اصطلاحاتها المملة التي يأنس بها المختصّون دون غيرهم. ما كان يهمني معرفته ولا يزال، هو الإطار العام الذي ينتظم المشروع النووي الإيراني تقنياً وسياسياً، ولماذا أثار من حوله كلّ هذا الصخب والضجيج ولا يزال، بحيث لا يمكن المقارنة أبداً بين هذا المشروع غير المؤكد، ومشاريع نووية يقينية شهدتها الهند وباكستان وكوريا الشمالية و«إسرائيل» وربما بلدان أخرى كالأرجنتين والبرازيل على ما يُشاع؟.
أعتقد أن أفضل أسلوب لتكوين الفهم وبناء التصوّر للنووي الإيراني، هو متابعته من الداخل على مستوى النشأة والتطوّر والإشكاليات؛ وهو ما نطمح بتقديمه عبر هذا الملف.
 
مرجعيات الملف
النووي الإيراني هو ملف سيادي يرجع القرار الأخير فيه إلى قائد الجمهورية الإسلامية السيد علي خامنئي (في المنصب منذ: 1989م)، وقد كان الشيخ هاشمي رفسنجاني (ت: 2017م) من أبرز المؤثّرين فيه تأسيساً وتطوّراً، وكذلك أخلافه الثلاثة في الرئاسة محمد خاتمي (1997ـ 2005م) واحمدي نجاد (2005ـ 2013م) وحسن روحاني ( في المنصب منذ: 2013م). لكن إدارته التقنية والتنفيذية المباشرة تراوحت بين منظمة الطاقة الذرية الإيرانية ووزارة الخارجية والمجلس الأعلى للأمن الوطني، ومن ثمّ أمامنا لمعرفة معلومات الملف وتفصيلاته ومنعطفاته منذ أول تسعينيات القرن الماضي حتى اليوم، نصوص وأحاديث ومحاورات مكثّفة لأبرز العاملين فيه، من أمثال محمد جواد ظريف وحسن روحاني ومحمد رضا البرزي وسايروس ناصري وحسين موسويان وعلي أكبر صالحي وسعيد جليلي وعباس عرقجي، علاوة على المرجعيات السياسية متمثلة بالرؤساء الأربعة والسيد خامنئي.
اعتقد أن متابعة نصوص هؤلاء ولقاءاتهم مع الإعلام ومحاوراتهم ومواقفهم، تزوّدنا بملف ضخم من الدرجة الأولى عن النووي الإيراني، وهو عمل يستحقّ أن تنهض به مراكز التوثيق والبحث في بلدنا أو غيره. بانتظار 
ذلك سنبقى مع شهادة لمحمد جواد ظريف تتمتع إلى جوار الإحاطة والعلم والمعرفة، بالرؤية الجامعة بين التقني والسياسي والمحلي والدولي، بالإضافة إلى القدرة المتميّزة على التحليل والتركيب والتنظير، خاصة وأنه قد أشرف على ملف النووي من موقعين؛ مرّة عندما كان معاوناً لوزير الخارجية وكبير المفاوضين ثمّ سفيراً لبلده في نيويورك، والثانية عندما أصبح وزيراً للخارجية 
مسؤولاً عن ملف التفاوض، الذي انتهى فعلاً إلى اتفاق إيران مع (5 + 1) سنة 2015م. يفيد ظريف بأن اسمه صار معروفاً ومتداولاً على أوسع نطاق بعد آب 2002م ليس بسبب موقعه في الأمم المتحدة ولجهة كونه سفيراً لبلاده في المنظمة الدولية، بل بسبب: «المفاوضات النووية ودوري في تلك الوقائع» (آقاى سفير، ص 187).
 
الخلفية التأريخية
قصة إيران مع النووي لم تنشأ مع عصر الجمهورية الإسلامية، بل سبقت عام 1979م بمدّة، ففي عام 1975م تعاقد الشاه محمد رضا بهلوي (في المنصب: 1941ـ 1979م) مع ألمانيا الغربية لبناء مفاعل بوشهر جنوب إيران بمبلغ (6) مليارات دولار، لكن وقائع الثورة الإسلامية وسقوط الشاه أدّت إلى توقف المشروع، ثمّ تحوّل العمل عليه إلى روسيا سنة 1995م، التي انتهجت سياسة التلكؤ المقصود، حتى تمّ افتتاحه متعثراً وعلى نحوٍ جزئي محدود جداً، أواخر عام 2011م، تحديداً بتأريخ 12 أيلول من العام نفسه، مع وعود غير ناجزة بإتمام العمل به، حيث ربطت روسيا جدول الإنجاز بملابسات الملف النووي الإيراني، وتجاذباته بين وكالة الطاقة ومجلس الأمن ومجموعة (5 + 1)، وأيضاً بالتدافعات السياسية الحادّة للشأن الإيراني في المنطقة 
والعالم.
ومع أن نظام الشاه كان يتحلى بشأن عظيم في قلب السياسة الأمريكية ـ الأوروبية، إلا أنه لم يُحقق لبلده شيئاً ذا بال على المستوى النووي، كالذي حققته الهند وباكستان والأرجنتين وجنوب أفريقيا والعراق، وربما عاد ذلك إلى شخصية الشاه الضعيفة المتردّدة، وعدم جرأته على اتخاذ خطوات طموحة. فمع أن الشاه كان يتحدّث عن خطط لإطلاق مجموعة محطات نووية بمساعدة أمريكا، كان يُفترض أن تصل إلى (23) محطة بحلول عام 2000م، إلا أن شيئاً من ذلك لم يتحقق على الأرض عدا مشروع مفاعل بوشهر المتعثّر، وقبله بعقدين مشروع مفاعل ذري صغير بقدرة (5) ميكاواط، جهزت به أمريكا مركز طهران للأبحاث النووية، الذي أُنشئ بتأريخ 5 آذار 1957م، من خلال برنامج إيزنهاور: «الذرة من أجل السلام»!
لا نملك مؤشرات على نشاط نووي متميّز لإيران على عهد قيادة السيد الخميني (في المنصب: 1979ـ 1989م) عدا كلام عن تعاون غامض مع الأرجنتين أواخر سنة 1987م وأوائل سنة 1988م، وهي السنة التي انتهت فيها الحرب العراقية ـ الإيرانية. كما صدر تقرير عن ألمانيا الغربية يومذاك تحدّث عن نشاطات إيرانية للسعي وراء النووي. وفي تقديري أن وضع النووي شهد جموداً شبه كامل عهد السيد الخميني (ت: 1989م)، ليس بسبب تحوّلات البلد الداخلية والحرب وأجواء العزلة الشديدة التي أحاطت إيران، إنما أيضاً لعدم قناعة الخميني نفسه بالسلاح النووي، لذلك فإن الشيء المؤكد أنه هو من أمر بتعطيل نشاطات إيران النووية السرية الموروثة عن نظام الشاه، أو أنه تمّ تجميدها بموافقته، خاصة وقد تابعناه في أكثر من خطاب وموقف، يهاجم أسلحة الدمار الشامل من كيميائية وجرثومية، ويدين صناعتها فضلاً عن استعمالها، رغم تواتر استعمال صدام للسلاح الكيميائي ضدّ الإيرانيين أكثر من مرّة.
 
عصر الثنائي
لكن الأمور تغيّرت بالكامل على عهد الثنائي الذي وصل إلى السلطة عام 1989م؛ خامنئي قائداً ورفسنجاني رئيساً، ولم يكن التغيّر قد طرأ بفعل غياب الخميني وحسب، بل قراءة تجربة الحرب داخلياً دفع القيادة الإيرانية للتفكير جدياً بالردع عبر تطوير الدفاع الداخلي، لاسيّما القدرة الصاروخية والبرنامج النووي، كي يكونا إلى جوار بعضهما قوّة رادعة لإيران، بالمعنى العسكري والسياسي معاً. أعان إيران على ذلك ومنحها فرصة استثنائية، غزو صدام للكويت وتخلخل ميزان القوى الإقليمية بهزيمة نظامه في حرب 1991م والحصار الذي تلاها، لكن الأهمّ بلا شك هو انهيار جدار برلين عام 1989م، وانتهاء الحرب الباردة على أثر تفكك الاتحاد السوفياتي وانهيار الكتلة الشرقية، وتحوّل ما نسبته 30 % من الترسانة النووية السوفياتية السابقة، من برامج وأجهزة وسلاح وتقنيات وخبرات إنسانية؛ تحوّلها إلى السوق السوداء الرخيصة، وسط سكرة الغرب بشقيه الأمريكي والأوروبي بالنصر، وغفلته عن السوق النووية الرخيصة في الدول حديثة الاستقلال، التي كانت تابعة للاتحاد السوفياتي
 قبل ذلك.
لا ريب أن دولاً كثيرة انتهزت هذه الفرصة لتعزيز قدراتها النووية أو الشروع بتأسيس برنامجها الخاص، مستفيدة من التخلخل في الجوّ العالمي الناشئ عن التحوّل من الحرب الباردة والانتقال إلى القطبية الأحادية، كما من البضاعة الإنسانية والتقنية الرخيصة التي تركها انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته الشرقية، كما فعلت ذلك الهند وباكستان وكوريا الشمالية وحتى الصين نفسها، مضافاً إلى الأرجنتين والبرازيل وجنوب أفريقيا وليبيا وإيران، وقصة "أبو القنبلة الذرية الباكستانية" عبد القدير خان (معاصر، ولد: 1936م) ودوره في تأسيس المشروع النووي الإيراني، ما هي سوى مؤشر واحد من مؤشرات هذا الملف الشائك، الذي لا يزال يكتنفه قدر كبير من الكتمان والسرية!
المهمّ أن إيران استثمرت هذا المنعطف على أفضل وجه، واتجهت صوب روسيا ليس فقط لإعادة الحياة إلى مفاعل بوشهر، وإنما لتأسيس برنامج نووي جديد، أحسنت بعد ذلك استعماله للمقايضة والردع السياسي، ولا تزال تتقن ذلك حتى اللحظة. بتقويم ظريف قامت سياسة الثنائي خامنئي ـ رفسنجاني في إبّان الثمانينيات والتسعينيات من القرن المنصرم على أساس الوضوح والشفافية، تحقيقاً لهدف مزدوج مفاده: «إننا من جهة لا نسعى إلى السلاح [النووي] لكن لنا الحقّ من جهة أخرى في الحصول على التقنية السلمية، وذلك ضغطاً على الغربيين لإلغاء العقوبات المزدوجة ضدّ إيران، بلوغاً إلى التقنية السلمية. هذه كانت هي السياسة التي اتبعها الشيخ هاشمي والقائد على نحوٍ خاص» (يُنظر: آقاى سفير، ص 195). وقد كان من نتائجها فتوى السيد خامنئي بحرمة الأسلحة النووية. (المصدر السابق، ص 196).
 
التوازن الصعب
من نتائج السياسة السابقة للثنائي خامنئي ـ رفسنجاني انزلاق الدبلوماسية الإيرانية إلى مهمّة شاقة، متمثلة بتحقيق التوازن الصعب بين مهمّتين اثنتين؛ الأولى رفض تدخلات الآخرين بالشأن الإيراني بذريعة النووي، والثانية أن لا يوحي هذا الرفض بأن إيران تسعى وراء السلاح النووي. يخلص ظريف بعد استعراض مجموعة عناصر عن الملف النووي، للقول: «من أجل ذلك، كنا مضطرين لإيجاد توازن صعب جداً في الجهاز الدبلوماسي للبلد؛ فقد كان ينبغي أن نعرض القضية، على النحو الذي لا تعني معارضتنا للتدخل الخارجي، السعي لامتلاك السلاح. كانت دبلوماسية شاقة جداً، لكنها جرت بنظري على نحوٍ منسجم جداً، بحيث استطعنا قيادة هذا المسار على نحوٍ جيد لبعض الوقت» (المصدر السابق، ص 197).
على طريق تحقيق هذا التوازن عملياً كان لابدّ من خطوات عملية على الأرض، حيث تأسّست القاعدة الصلبة للبرنامج النووي الإيراني على عهد رئاسة هاشمي رفسنجاني (1989ـ 1997م) وتعزّزت على عهد السيد محمد خاتمي(1997ـ 2005م) كلّ ذلك: «تحت إشراف القائد»، بحيث: «لم أنطق بكلمة واحدة بدون إجازة القائد، طوال مدّة تحملي للمسؤولية» (المصدر السابق، ص 240).
ما دمنا عند هذه النقطة من المهمّ أن نبدّد انطباعاً خاطئاً ربما يتركه التصوّر السابق في الأذهان، فإشراف السيد خامنئي على الملف النووي، لا يعني المركزية المطلقة في التنفيذ، وغياب التجاذبات بل حتى الصراعات الداخلية بين مختلف الأجهزة والمواقع؛ منظمة الطاقة الذرية ووزارة الخارجية والمجلس الأعلى للأمن الوطني، واليسار واليمين، والمحافظين والإصلاحيين، والأصوليين الثوريين المبدئيين والمعتدلين، وبين الصحافة والإذاعة والتلفزيون وصنّاع القرار، وأصحاب الخبرة وأدعياء الخبرة، ودعاة الصوت العقلاني الهادئ المعتدل وأنصار الصراخ والإثارة والضجيج وملء الأجواء بالضبابية المشوبة غالباً بالجهل، إلى آخر ما هناك من استقطابات وثنائيات، دفعت الوزير محمد جواد ظريف إلى أن يتحدّث عن مشكلتين للملف النووي، مرتكز الأولى في الخارج والثانية في الداخل. يقول ما نص ترجمته عن عقدة الداخل: «لمشكلة الذري مرتكز داخليّ أيضاً، متمثل بالجهل والتنافس المؤسّسي داخل الجمهورية الإسلامية. فقد كانت أمريكا تبحث عن ذريعة لتضعنا عالمياً تحت الضغط، ومع الأسف نحن من منحها هذه الذريعة» (آقاى سفير، ص 229ـ 230).
على هذا الضوء يوضح ظريف أن بعض أزمات الذري الإيراني، تعود إلى هذا الصراع، حيث يقول: «السبب في ذلك هو التنافس بين المؤسّسات، بخاصة بين منظمة الطاقة الذرية ووزارة الخارجية»، لينعطف للقول: «راحت منظمة الطاقة الذرية في الجمهورية الإسلامية، تتابع المسار السياسي برؤية فنية، من دون تخصّص بالبحث السياسي. وهذا ما أوقع منظمة الطاقة الذرية برؤية متفائلة بالكامل، وأغراها بالحديث عن حلّ الموضوع في غضون شهر أو شهرين؛ فقط لأنها تعلم بأننا لا نسعى للقنبلة. على عكس ذلك وزارة الخارجية، فلأن هذه الوزارة منتبهة إلى الأبعاد الدولية، فقد كانت تعرف أن أمريكا تسعى وراء ذريعة، وهي ليست قلقة بالضرورة من وجود محطتين نوويتين في إيران، بل كان همها الضغط على إيران وأن تحرمها من حقوقها في هذا المجال» (المصدر السابق، ص 230).
هكذا يستنتج ظريف أنه بسبب: «اختلافاتنا الداخلية لم نستطع بعض الأوقات أن نردّ 
على ذرائع أمريكا كما ينبغي، ولهذا السبب استمرّت القضية على هذا المنوال [الإشكالي المتعثر] حتى الآن»، (المصدر السابق، ص 231). هكذا صار: «الجهل بالوقائع السياسية ونظريات العلاقات الدولية باعثاً لسوق مجموعة للتعامل مع المسألة من منظور الرؤية الفنية، وهم يردّدون بأن لدينا مشكلة فنية واحدة أو مشكلتين، سنسعى إلى حلها أيضاً. في المقابل ثمة مجموعة راحت تنظر إلى المسألة من خلال الرؤية الأمنية، وهي تردّد بأننا لا نسعى نحو القنبلة. أما من كان ينظر إلى القضية من نافذة العلاقات الخارجية والسياسة الدولية، فلم يكن يجد المتلقيّ الفَهِم، بسبب عمق كلامه والتعقيد الذي تنطوي عليه هذه الرؤية»
 (المصدر السابق، ص 231).
هكذا نجد أن الجهل والصراع وذهان السهولة والرؤى أحادية الجانب التي تختزل النووي بالبُعد التقني وحده أو الأمني دون غيره، وتنظر إليه كملفٍ وطنيّ داخليّ وحسب، وادّعاء الكلّ للخبرة من جهة، وعدم الإذعان بأهمية الاختصاص في حقل العلاقات الدولية والسياسة الخارجية من جهة أخرى؛ كلّ هذه الأسباب مجتمعة حوّلت النووي في إيران إلى أزمة كبرى، يقدّم لنا ظريف وصفاً دقيقاً لها بكلمات وجيزة، وهو يقول: «مشكلتنا الذرية هي عبارة عن مشكلة نفسية ومعرفية؛ فمن جهة يتصيّد أولئك [أمريكا ومن يقف معها] الذرائع، ومن جهتنا نحن لا نفهم الوضعية؛ مصابون بذهان السهولة وداء السذاجة»! (المصدر السابق، ص 232).
 
تمرين الكيميائي
يذكر ظريف أن واحدا من أهمّ أهداف السياسة الخارجية، هو أن نثبت بأن «مبدأنا الأمني» لا يستند إلى أسلحة الإبادة الجماعية، من كيميائية إلى جرثومية إلى ذرية. لذلك شهدت السياسة الإيرانية تركيزاً متزايداً في ثمانينيات القرن الماضي إلى أواسط تسعينياته على مواجهة الأسلحة الكيميائية، لاسيّما أن إيران نفسها كانت ضحية استعمال متكرّر لهذا السلاح من قبل صدام حسين أثناء الحرب العراقية ـ الإيرانية. وربما لهذا السبب جاء تشديد الوزير علي أكبر ولايتي (في المنصب: 1981ـ 1997م) على حرمة استعمال الأسلحة الكيميائية، في ستة عشر خطاباً من خطاباته التي شارك فيها في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة خلال تبوئه منصب وزير الخارجية، مضافاً إلى مناسبات أُخر، على حدّ ما يذكره ظريف، بل يُلحظ أن السيد علي خامنئي ساهم في تعزيز هذا التوجه في السياسة الإيرانية حين كان رئيساً للجمهورية بين 1981ـ 1989م.
كانت معادلة الكيميائي شبيهة تماماً بمعادلة النووي، حتى يمكن القول إن الكيميائي كان رغم قصر دورته نسبياً، تمريناً للنووي، من زاوية رجوعهما إلى قاعدة واحدة مفادها؛ أن تعزيز إيران لقدراتها التسليحية والدفاعية لم يكن يعني بحال أيّ رغبة للحصول على الأسلحة الكيميائية، تماماً كما أن سعيها وراء البرنامج النووي، لم يكن يعني أنها تريد السلاح النووي، ومن ثمّ فإن: «كلّ ما من شأنه أن يوهم بأننا وراء السلاح الذري، هو في الحقيقة خلاف سياسة البلد» (المصدر السابق، ص 197).
في ضوء هذه المعطيات تابعت إيران بجد اتفاقية الأسلحة الكيميائية، ضمن دورة معقدة من المفاوضات، انتهت بتوقيع إيران عليها، هذه المعاهدة التي صارت جاهزة للمصادقة نهاية رئاسة هاشمي رفسنجاني، وسط أجواء داخلية ملتبسة، وتجاذبات بين مراكز القوى، وارتفاع أصوات تذهب إلى أن الالتحاق بمعاهدة منع إنتاج الأسلحة الكيميائية واستعمالها، هو بضرر إيران. يعطينا ظريف صورة لهذا المشهد المتداخل، بقوله: «اعتقدَ البعض أن إقرار معاهدة الكيميائي بضررنا، وذلك عبر توظيف سطحيّ لنظريات العلاقات الدولية، ومن خلال ما أشاعوه من أجواء خاطئة بالكامل من الوجهة النظرية، أُبتُنيت على أكاذيب روّجت داخل البلد، سرت حتى إلى القوّات المسلحة، ما أدّى إلى تدخل مُباشر من قبل القائد، وأمرُه بحلّ الموضوع. ومع أن المجلس [النيابي] أقرّ المعاهدة، إلا أن الاعتراضات بقيت مستمرّة، ما أدّى إلى تدخل القائد مباشرة» (المصدر السابق، ص 197).
لم يقتصر الأمر على هذه التدافعات وحدها، بل يعطينا ظريف صورة تفصيلية عن المشهد، حين امتنع الرئيس محمد خاتمي (في المنصب: 1997ـ 2005م) أو تلكأ بتوقيع الوثيقة الإضافية التي ألحقتها الجمهورية الإسلامية بالاتفاقية الكيميائية، فما كان من السيد خامنئي إلا أن أصرّ عليه بتوقيعها، وهو ما قام به خاتمي «خلافاً لرغبته» كما ينص ظريف. إذن، الوثيقة كانت قد أُقرّت في مجلس الشورى نهايات عهد هاشمي رفسنجاني (في الرئاسة: 1989ـ 1997م) ورُحّلت إلى عهد رئاسة خاتمي، فاندفعت الضغوط مجدّداً، لكن باتجاه رئاسة الجمهورية هذه المرّة، ما أدّى إلى أكثر من تدخل من قِبل القائد خامنئي، وفق المنطق التالي لخامنئي نفسه: «عشر سنوات ونحن نخوض معركة الكيميائي، والآن نمتنع عن الالتحاق بالمعاهدة؟». يعقّب ظريف على ذلك: «أي تصوّر عنا سيتركه امتناعنا ونحن ضحايا السلاح الكيميائي؟» (المصدر السابق نفسه).
 
أخيراً
لم يسق ظريف ملابسات الملف الكيميائي وصراع القوى من حوله في الداخل؛ من باب سرد الوقائع أو التوثيق التأريخي، بل فعل ذلك لمقاربة الملف النووي بالكيميائي، وأن الملفين يتشابهان كثيراً من زاوية احتدام الجدل من حولهما في الداخل، واختلاف الرؤى، وتنافس الأجنحة، وصراع المراكز والمؤسّسات، حدّ الرميّ بالتخوين كما حصل في النووي، مع فارق واضح بين الاثنين، يفيد أن العامل الدولي في الذري أوضح منه في الكيميائي وأشدّ تداخلاً وتعقيداً.
بعد هذه المقاربة يعطينا ظريف نقطة ارتكاز زمانية ومضمونية وحدثية للملف النووي الإيراني على وفق ما سنرى ذلك بوضوح، في الحلقة القادمة إن شاء الله العزيز.